في بداية المقال لا بد أن نثبت شيئاً جديراً بالإشارة والتنبيه، بين يدي هذا المقال، وأنا على علم ويقين بأني أقتحم حقل ألغام، شديد الوعورة، قَلَّ من نجا منه، ورغم ذلك أصر على اقتحامه، لخطورة القضية، وتعلقها بالدِّين من ناحية، والوطن من ناحية أخرى، وهما أثمن وأنفس ما يملكه الإنسان. الجدير بالإشارة هنا أني على يقين بالاختلافات بين بني الإنسان، وأنه من غير الممكن أن يكون الناس جميعهم على قلب رجل واحد، أو على فكر رجل واحد؛ فهذا مخالف لنواميس الكون، والسنن الإلهية، ويتفرع عن ذلك أننا لا نتهم أحداً في نيته، ولكن على ما ظهر وبدا. نعرج بعد ذلك إلى حقل الألغام، ونسير فيه برفق، ونقول: إنه عقب كل احتلال غربي، أو أمريكي، لبلد عربي، تظهر فزاعات مسلحة، تكون سبباً في عودة العسكر الغربي إلى ديارنا، واحتلال أراضينا، بذرائع شتى، ومبررات مختلفة عن سابقتها. فبعد الاحتلال الروسي لأفغانستان، وظهور المقاومة الباسلة، التي أجبرت الدب الروسي على الخروج منكسراً، ظهر في الأفق العالمي تنظيم القاعدة، وقام بعمليات عديدة في بلدان العالم العربي والإسلامي، ثم امتدت إلى العالم الغربي، حتى كانت حادثة الحادي عشر من سبتمبر، التي على إثرها عادت الولايات المتحدة لاحتلال أفغانستان، بعد رحيل السوفييت. هذه العمليات العنيفة أذابت الصورة الذهنية الرائعة التي تركتها المقاومة الأفغانية، وهي تسعى لتحرير أراضيها من الاحتلال، وكانت مفخرة للمسلمين - أي مفخرة - وهم يدافعون عن أراضيهم، ومعرة - أي معرة - للحضارة الغربية، وهي تسفك الدماء، وتسعى لإخضاع الشعوب الحرة بالقوة الغاشمة. لقد تكرر الأمر ذاته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فكانت المقاومة الباسلة، التي خرجت من عباءة أهل السنة، وأذاقت الاحتلال الأمريكي صنوف الألم بعملياتها الرائعة، وكان شرفاً كبيراً للأمة أن يواجه أبناؤها الشرفاء هذا الاحتلال الغاشم، الذي ظهر تعطشه للدم والهدم بصورة فاضحة أمام العالم كله. وبعد انتهاء عهد الوصاية، بخروج القوات الأمريكية من العراق، ظهرت فزاعة تنظيم الدولة الإسلامية داعش، التي أعادت قوة الاحتلال على وجه السرعة إلى العراق؛ ليكون خاضعاً للاحتلال مرة أخرى، بل يمتد الاحتلال إلى سوريا. ونسي العالم مذابح الأمريكان في الفلوجة وغيرها، وما عاد يتذكر سوى مذابح داعش المروعة وأخواتها من فصائل وحركات العنف. إن هذه الحركات المسلحة ليست سوى محارق للشباب، وكأني بها نيران تشتعل، بفعل فاعل، لم يعد مجهول الهوية، وتلتف حولها الفراشات، وتقع فيها واحدة تلو الأخرى، وهي لم تعد تسمع، وليست راغبة في أن تسمع النداءات والأصوات التي تحذرها من مغبة الوقوع في تلك المهالك غير المحسوبة، التي شوهت صورة الجهاد، وبرأت الغرب من جرائمه، وأظهرته في صورة الضحية، وهو الجاني في كل مرة. ألم أقل لكم.. إنه حقاً حقل ألغام..