دخل وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور «وكر دبابير» خطرا، ومع ذلك لا يزال يتوعد، بأنه لن يتوقف عن فضح كل المخالفات الغذائية، من أي جهة جاءت وفي أي منطقة كانت، بما في ذلك الضاحية الجنوبية معقل «حزب الله». الرد الشرس، لم يأت، من أصحاب المطاعم والمؤسسات الغذائية المصابة في صميم سمعتها، بعد أن أعلن عنها بالاسم، في ضربة قاصمة هي الأولى من نوعها في لبنان. جاء الهجوم العنيف ويا للغرابة، من المستهلك، الذي يفترض أن الكشوف المخبرية الفضائحية تريد حمايته من التهام الجراثيم وتجرع البكتيريا، ومن وزراء ومسؤولين، هم، تحديداً، أول المعنيين بمحاسبة المنتهكين. الرد جاء قاسيا وغاضبا على لسان الوزير أبو فاعور نفسه، لأن الحملة طالت كباراً، بينهم برجوازيات راسخة، وإمبراطوريات تجارية، وماركات براقة، دخلت عالم «الأيزو» و«الفرنشايز» وتمترست خلفها. غياب الدولة بسبب الحروب والمحسوبيات، شجع على الاستخفاف المخيف بلقمة المواطنين. التقاليد اللبنانية الحريصة على الصورة اللماعة لبلد الجمال والأناقة، صارت تعني، التستر والمحاباة، والنفخ الأجوف في أبواق مضللة. لم يعد الأمر يحتمل بالنسبة لأبو فاعور الذي يرفض «سياحة الأكل الفاسد ومياه الصرف الصحي». البعض يشكك في نيات الوزير المتمرد، وفي نزعاته الإصلاحية المفاجئة في بلد ينخره دود الفساد. السؤال عن التوقيت والغايات، أمر مشروع، لأن لا شيء في لبنان يتحرك لوجه الله أو عشقاً بحقوق الإنسان. الانتقاد يصل إلى حد اتهام أبو فاعور، ومن ورائه «الحزب التقدمي الاشتراكي» بإلهاء الناس، لتغطية مشاريع أكبر، منها التمديد للمجلس النيابي، وأشياء أدهى. أغرب التعليقات لمواطن قال: «إنها الصهيونية تضرب البلد. هؤلاء يريدون أن يهدموا الاقتصاد، آخر ما تبقى في لبنان». لعل غاية في نفس يعقوب حركت الوزير، قد تكون مرامي سياسية فتحت شهية حزبه على حملة «النظافة» و«الرهافة» و«مكافحة البكتيريا القاتلة في الصحون الموبوءة». أليس الأجدر بالمواطنين الاستفادة من الفرصة بدل مجابهتها؟ في ردة فعل غرائبية، لا تراها إلا في لبنان، تقاطر مواطنون بعد الإعلان عن المخالفين، على هذه المحال، التهموا أطعمتها بشهية، تصوروا أمام الكاميرات، نكاية بالوزير. «نحن نأكل رأس الحية»، يقول أحدهم مبتسماً، فخوراً بأنه يعاند وزارة الصحة «المغرضة». سيدة تنتقي لحمتها من سوبر ماركت ملوثة ذبائحها غير آبهة، لأنه لم يسبق لها، رغم هذا العمر المديد، أن تسممت منها. يختلط الجهل بالشك، والكفر بالدولة بإدمان الاتكال على الصدفة. يدافع فقراء القوم عن برجوازييهم باستبسال، ولو جرعوهم السم. ليس المطلوب انسياق المواطن الأعمى وراء النتائج المخبرية المقلقة جداً التي أعلنت رسمياً. المأمول كان شيئاً من التردد والتمعن، قبل أن يطلق المستهلكون صراخهم المتهكم في وجه المفتشين و«مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية» التي اضطر أبو فاعور لزيارتها، ليكشف للرأي العام علميتها وصدقيتها. شكك مستهلكون كثر، ومعهم وزراء نافذون، في كل شيء؛ في العينات الغذائية التي أخذت للفحص، في طريقة نقلها وحفظها، في جدارة المختبر، في مهنية المفتشين، وفي نيات الوزير وسبب اختياره الإعلان عن الأسماء، راهنوا على أن الحملة لن تؤدي إلى نتائج، ولم يبق إلا التشكيك بوجود وزارة الصحة. في المقابل أعطي المخالفون صك براءة شعبية، أو يكادون، ألبسوا لبوس المعتدى عليهم، وبات من المتوجب الشد على أيديهم، والتظاهر أمام محالهم مناصرة لقضيتهم المحقة في تسميم الناس، بعد أن عقدت لقاءات تضامنية للدفاع عن بعضهم. تلفتني صديقة، باحثة اجتماعية، حول ظاهرة «التماهي» مع «المتمول» في مجتمعات، تفتقد إلى مرجعيات مؤسساتية أو ثقافية تستند إليها، لتصبح الإمبراطوريات المالية، رغم انتهاكاتها، بديلاً وملجأ. تذكرني بأن الوزير أبو فاعور، هزّ، بخطوته غير المسبوقة، رموزاً في الاقتصاد اللبناني، تتمفصل بقوة مع الطبقة السياسية وترتبط بمصالح معها، ويرى فيها المواطن مثاله ونموذجه الأعلى، ولا يروقه أن يرى صورتها ترتج أمام عينيه. التلوث الغذائي في لبنان له امتدادات أبعد من المعدة، تصل إلى الذهنية الشعبية والتركيبة السياسية. الصحن الذي تعشش فيه أصناف البكتيريا والسلمونيلا، يقودنا إلى تلوث تمديدات المياه، وفساد المرفأ حيث تدخل اللحوم، وفوضى مزارع المواشي، وصفقات العلف، وقذارة المسالخ، وغياب ضمير شركات النقل، ومأساة الكهرباء المزمنة وعدم توفر البرادات، والسلسلة طويلة ولا تنتهي. وزير المتاعب أبو فاعور، يستفيق على فضائح وينام على غيرها. بدأ بالمستشفيات التي تبين أن فسادها وصل إلى حد فبركة فواتير تعالج موتى وهم في قبورهم، واختلاسها بلغ المليارات، ومضى إلى المطاعم ومغاراتها المظلمة، ومؤسسات التجميل غير المرخصة وفظائعها، وهو يشمر عن ساعديه للغوص في تجارة المياه التي فاحت روائحها الآسنة. لعل الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، لمحاربة أخطبوط الفساد بدأت، إذا تبين أن الوزير جدي في حربه الضروس. قد يحرج أبو فاعور، إن هو استمر، وزراء آخرين، وصل الغضب بأحدهم إلى درجة المطالبة بمحاكمة وزارة الصحة على فعلتها. لعل حملة تطهير المأكولات، تؤدي إلى تعقيم ذهنيات، أدمنت المدافعة عن التواءات الأرواح واعوجاج السلوكيات. ثمة أمل ضئيل يبزغ، بصيص ضوء في آخر نفق شديد العتمة. يعيش التاجر اللبناني على السمعة، وقرار اتخذ، ولو من فئة قليلة (قد تغلب فئة كثيرة) بتهديد هؤلاء بأعز ما يملكون. لعل «ربيع لبنان» يورق من باب الغذاء والماء والتجميل. «نحن محكومون بالأمل» في هذه الصحراء القاحلة، كما قال الرائع سعد الله ونوس، قبيل وفاته بأيام، ولو كان سراباً كاذباً ولا يزال القبض عليه مستحيلاً.