طوال الطريق الواصل بين موقع المجزرة الأولى في وادي بادوش، ومدينة الموصل التي توجهت إليها الشاحنات الثلاث وهي تحمل السجناء السنّة ومعهم عشرات السجناء الشيعة المتخفين، كان شاهدنا الناجي مسعود وعد الله، يرفع صوته مع باقي السجناء بشعار تنظيم «داعش» المعروف: «دولة الإسلام... باقية». ظن وعد الله أن عناصر «داعش» انطلت عليهم الخدعة، وبأنهم سيطلقون سراحه حالما يصلون المدينة. لكن القلق سرعان ما استبد به حين مرت الشاحنات بالقرب من بوابة الشام. فهناك، كان عناصر التنظيم يقتادون مجموعة كبيرة من السجناء باتجاه المنطقة المحاذية للبوابة، وخمن وعد الله أنهم سيعدمونهم مثل سجناء وادي بادوش. مجزرة عين الجحش يتذكر وعد الله، وهو الناجي الوحيد الذي خرج من المجزرة ليروي شهادته، أن الشاحنات انحدرت بعد عبورها بوابة الشام إلى الحي الصناعي الواقع غرب الموصل، ومنه إلى حي التنك، وصولاً إلى منطقة السحاجي فـالطريق الخارجي المتجه إلى جنوب غربي الموصل. بعد نحو ساعتين من السير في الطريق الصحراوي وصلت الشاحنات إلى منطقة عين الجحش، وهناك، بالقرب من مقلع الحجر، توقفت الشاحنات ونزل منها السجناء ليجدوا في انتظارهم العشرات من عناصر «داعش». السجين 157 يقول وعد الله إن عناصر التنظيم صفوا السجناء على طريقة النسق، كل خط يتكون من عشرة سجناء، ثم بدأوا بإعطاء أرقام متسلسلة للسجناء، ينادي كل منه برقمه حين يصل الدور إليه، «وصل العد إلى 475، وأنا كان رقمي 157». حينذاك، أمر أحد قادة التنظيم كل السجناء الشيعة المتخفين، أن يخرجوا على الفور من المجموعة والوقوف في الجانب الآخر. وحين رفض السجناء السنة الإشارة إلى السجناء الشيعة، قام قائد المجموعة بقتل اثنين من السجناء، فاضطر السجناء السنة إلى الإبلاغ عن السجناء الشيعة الذين بلغ عددهم 74 سجيناً. لاحقاً، حقق عناصر التنظيم مع السجناء السنة، سألوهم عن عشائرهم ومناطق سكناهم وكيفية إقامة الأذان والصلاة، وعزلوا سبعة من السجناء السنة الذين كان من سوء حظهم أن لهجاتهم كانت قريبة من لهجة أهل جنوب العراق، أو أن أسماءهم كانت «أسماء شيعية». بعدها، كما يقول الناجي الوحيد وعد الله، صف عناصر التنظيم السجناء الشيعة الـ74 ومعهم السجناء السنة السبعة على حافة حفرة كبيرة، يتجاوز قطرها 7 أمتار وعمقها ثلاثة أمتار. يتذكر وعد الله أنهم حين وصلوا إلى حافة الحفرة الكبيرة، أصيبوا بالرعب. «ففي تلك الحفرة كانت تتكدس العشرات من جثث الجنود وعناصر الشرطة الذين أعدمهم عناصر التنظيم قبل وصولنا إلى المكان». حين بدأ إطلاق النار، يقول وعد الله، تلقيت رصاصتين في كتفي وظهري، ورميت بنفسي داخل الحفرة مع الجثث المتساقطة، وبقيت ملقى هناك، فوقي جثث السجناء، وتحتي جثث الجنود، مطبقاً بأسناني على ساق أحد الموتى كي لا أصرخ من الألم». يتذكر وعد الله، أنه بقي على وضعه منتظراً ابتعاد عناصر التنظيم كي يخرج من الحفرة ويهرب بالاتجاه المعاكس لبيوت التنظيم الطينية، وبعد ساعات من سيره غرباً، رأى عباس أضواء القرى البعيدة، ومن هناك تدبر أمره في الوصول إلى منطقة الحضر، وفي رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، بمساعدة أهالي مناطق سنية مر بها، وصل إلى مدينته القريبة من العاصمة بغداد. مجزرة بوابة الشام تردد الرجل الستيني حامد الـــبيــجاوي كثيراً قبل أن يقرر الوجهة التي سيسير فيها بعد خروجه من السجن، لم يكـــن قد بـــقي له من محــكوميته سوى ستة أشهر، وجسده ما كان يسعفه على السير لمسافات طويلة. ما كان البيجاوي يعرف أن خطواته المتثاقلة، ستكون مفتاح نجاته من الموت. فبعد أن وصل إلى تقاطع بادوش، كانت الشاحنات الثلاث التي حملت السجناء إلى موقع المجزرة الأولى، قد غادرت للتو. عند بوابة الشام، كان عناصر تنظيم «داعش» يشخصون السجناء الواصلين إلى البوابة من ملابسهم وطريقتهم في السير ضمن مجاميع غير منظمة، ومشياً على الأقدام. وحالما وصل البيجاوي، ألحقه عناصر التنظيم بمئات السجناء الذين عزلهم وأجلسهم على جانب البوابة. هناك، طلب أحد قادة تنظيم «داعش» أن ينقسم السجناء إلى مجموعتين، واحدة للسنة، والثانية للشيعة. ولأن البيجاوي كان ينتمي لقبيلة البيجات التي ينتمي إليها صدام حسين، فقد ادعى بأنه من أقارب الأخير، لهذا سمح له قائد مجموعة «داعش» الذي كان يتحدث بلهجة موصلية قروية، أن يقف جانباً لكي يطلق سراحه حين ينتهي من الآخرين. لم يكن البيجاوي فعلاً من أقارب الرئيس الأسبق صدام حسين. بل كان من الفرع الشيعي من نفس العشيرة التي يتركز سنتها في قرية العوجة، وشيعتها في بعض مناطق الجنوب. لكن هذا اللقب طالما كان ينفعه حين يكون في مناطق الموصل أو غرب العراق، ومنذ ثمانينات القرن الماضي. كان عدد السجناء الشيعة عند البوابة بعد إجراء التعداد عليهم، باستثناء البيجاوي، 304 سجناء، اقتادهم مسلحو «داعش» إلى الجهة المقابلة للبوابة «وبدأوا بحصدهم برشقات متتالية من الرصاص وسط التكبيرات التي ضجت في كل أنحاء بوابة الشام». كما يقول البيجاوي. وبحسب شهادة البيجاوي، فأنه شاهد عناصر التنظيم قبل مغادرته باتجاه الموصل، وهم يجمعون مجدداً كل السجناء الوافدين إلى البوابة، وإجلاسهم على جانب الطريق تمهيداً لتنفيذ عملية إعدام جماعي أخرى كما يعتقد. المصير المجهول وصل شاهدنا الناجي محمد عبد الله إلى بوابة الشام بعد إعدام الوجبة الأولى (304)، وكان ذلك كما يتذكر بعد العاشرة والنصف تقريباً، حينها، أوقفه عناصر التنظيم وأجلسوه مع مئات السجناء إلى جانب البوابة. ومثلما كان عليه الحال في الوجبة الأولى من السجناء، طلب قيادي في «داعش» يتحدث بلهجة خليجية أن ينقسم السجناء إلى مجموعتين، سنية وشيعية، حينها، كما يقول عبد الله، «تحركت أنا ومعي بعض السجناء الشيعة الذين أعرفهم إلى الجهة التي تجمع فيها السجناء السنة». في ذلك الوقت، كان عناصر التنظيم يجرون تعداداً للسجناء الشيعة فوصل عددهم إلى 108 سجناء. لكن قائد المجموعة طلب من السجناء الشيعة الذين التحقوا بالمجموعة السنية أن يكشفوا عن أنفسهم على الفور، ثم قام بذبح اثنين من السجناء الشيعة الذين تعرف إليهم داخل السجناء السنة، ما دفع 60 سجيناً إلى الالتحاق بالمجموعة الشيعية طواعية. لاحقاً، كما يقول عبد الله، وصل رجل مقنع في سيارة همر عسكرية عليها راية «داعش»، وقام بتشخيص 31 سجيناً شيعياً متخفياً، «لكنه لم يتعرف أيضاً على بعض الشيعة المتخفين، بمن فيهم أنا». عرف عبد الله لاحقاً أن الرجل المقنع كان من قيادات تنظيم «القاعدة» الذين نقلوا من سجن بادوش إلى سجن أبو غريب قبل عامين، وهو على الأرجح هرب من السجن خلال عملية اقتحام هذا السجن في 22 تموز (يوليو) 2013. نجا محمد بأعجوبة. وغادر مع باقي السجناء المطلق سراحهم إلى مدينة الموصل، وبمساعدة معارفه وصل إلى محافظته جنوب العراق، لكنه يتذكر أن مجموع السجناء الشيعة البالغ عددهم 199 سجيناً، بقوا في مكانهم حين غادر المكان، ولا أحد يعرف مصيرهم حتى الآن، «لكن على الأغلب أنهم قتلوا أيضاً». يتذكر عبد الله أيضاً، أنه قبل أن يترك البوابة ويدخل مدينة الموصل، مرت ثلاث شاحنات مكتظة بالسجناء الذين كانوا يهتفون لتنظيم «داعش» «دولة الإسلام ... باقية». وهو يشير هنا إلى الشاحنات التي كانت قد عادت لتوها من موقع المجزرة الأولى في وادي بادوش، متوجهة إلى موقع المجزرة الثانية في مقلع الحجر بمنطقة عين الجحش، مارة بموقع المجزرة الثالثة، بوابة الشام. يتذكر شاهدنا الناجي أحمد السلطان الذي وصل برفقة اثنين من أبناء المناطق القريبة من سجن بادوش، بعد أن انتحل شخصية أحد رفاقه السنة في السجن وأقنعهم أنه ينتمي لعشيرة الندة التي تقطن في محافظة صلاح الدين. خلال الفترة التي استغرقها هذان في إقناع عناصر «داعش» بأنه سجين سني وهما يعرفان عشيرته وأعمامه، فتح السلطان عينيه ببطء ليراقب الموقف، «حينها رأيت عناصر التنظيم يقتادون مئات السجناء إلى الجهة المحاذية لبوابة بادوش، ويطلقون النار عليهم». لا يؤكد السلطان، أو ينفي، إن كانت المجموعة التي رأها تتعرض للإعدام الجماعي هي المجموعة الأولى من السجناء (304) أم المجموعة الثانية (199)، لكن قياساً للوقت الذي استغرقه للوصول إلى البوابة «من الأرجح أنها كانت تلك هي المجموعة الثانية من السجناء». كلاهما، محمد عبد الله وأحمد السلطان، وأيضاً السجين الناجي البيجاوي، يعتقدون أن من المستحيل أن يكون تنظيم «داعش» قد أفرج عن المجموعة الثانية، وأنهم لم يسمعوا أبداً عن نجاة هذا العدد الكبير من السجناء الشيعة من موقع واحد. المجزرة الرابعة، على مشارف تلعفر نحو الطريق المؤدي إلى مناطق التركمان الشيعة والإيزيديين (تلعفر وسنجار) توجه أغلب أبناء هاتين المدينتين، وبرفقتهم سجناء شيعة وإيزيدون ومسيحيون كانوا يأملون بالخلاص واللجوء إلى منطقة تلعفر الشيعية أو سنجار الإيزيدية (سقطتا لاحقاً بيد تنظيم داعش). قام هؤلاء، بمن فيهم شاهدنا يونس الشمري، وهو سجين سني من أهل ناحية ربيعة غرب الموصل، بالالتفاف حول السجن ثم دخلوا منطقة بادوش السكنية وساروا بمحاذاة نهر دجلة لأكثر من عشرين كيلومتراً، ومن هناك أخذوا الطريق المؤدي إلى بلدة تلعفر ليتفرقوا منها إلى مناطقهم. قبل وصولهم إلى البلدة بعدة كيلومترات، قطع عليهم الطريق مجموعة من عناصر تنظيم «داعش» وقاموا بعزل السجناء السنة عن أقرانهم الشيعة، ثم أعدموا 36 سجيناً شيعياً وإيزيديا وألقوا جثثهم على جانب الطريق، وأفرجوا عن 15 سجيناً ثبت للتنظيم أنهم من السنة، من بينهم الشمري نفسه. لم يتمكن الشمري من تحديد موقع الإعدام بالضبط، فالمنطقة كانت صحراوية وبعيدة عن المناطق السكنية المعروفة، لكنه يؤكد أن موقع الإعدام «كان على مشارف بلدة تلعفر». الحصيلة من مجموع 2700 سجين كانوا في السجن قبل الحادثة، هناك 300 سجين سلموا أنفسهم أو ألقي القبض عليهم بحسب ما يكشفه الناطق باسم وزارة العدل، حيدر السعدي. فيما بقي مصير 2400 سجين قيد المجهول. يؤكد السعدي، أن الوزارة لم تصل بعد إلى عدد السجناء الذين أعدمهم تنظيم «داعش»، وأن والتحقيقات جارية لمعرفة عددهم الحقيقي والمواقع التي أعدموا فيها. قبل هذا، قالت الوزارة لجريدة «الصباح» الحكومية إن السجناء تم إعدامهم في مكان قريب من سجن بادوش (الموقع رقم واحد/ وادي بادوش)، من دون الإشارة إلى أية مواقع أخرى. وأن الوزارة تنتظر أن يتم استعادة هذه المناطق من يد «داعش» لمعرفة عدد الضحايا، (يرجح قادة التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، أن لا يتم استعادة مدينة الموصل قبل مرور سنة من الآن). بالعودة إلى شهادات الناجين، تمكن كاتب التحقيق من تحديد عدد تقريبي لضحايا سجن بادوش، لكنه رقم مبني على شهادات ناجين، ولا يرقى إلى أن يكون رقماً دقيقاً تماماً، وليس ملزماً لأي طرف. فالسجناء الذين تأكد موتهم، بحسب السجناء الناجين، هم قرابة 500 سجين في وادي بادوش، و82 سجيناً في مقلع الحجر بوادي عين الجحش، و306 سجناء في بوابة الشام، و36 سجيناً على مشارف مدينة تلعفر، فيما تسلم الطب العدلي في مدينة الموصل 14 جثة، وعثر على اثنين من الضحايا في مدينة بلد، وهكذا يكون مجموع الضحايا 940 سجيناً. في ذات الوقت، بقي معلقاً، مصير 201 سجين تم تجميعهم وعزلهم في الوجبة الثانية بالقرب من بوابة الشام، ولم يتأكد إعدامهم من عدمه، على رغم ترجيحات السجناء الناجين بأنهم أعدموا قرب البوابة، وهو ما قد يرفع رقم الضحايا إلى 1141 في حال التأكد منه. بالنسبة للمواقع التي جرت فيها عمليات الإعدام، تظهر الشهادات أن المجازر الرئيسية حدثت في أربعة مواقع، هي: وادي بادوش (صورة رقم 1)، مقلع الحجر في عين الجحش (صورة رقم 2)، بوابة الشام (صورة رقم 3)، ومشارف مدينة تلعفر (صورة رقم 4). وهذه المناطق كلها تقع الآن تحت سيطرة تنظيم «داعش». وهي مؤشرة على الخريطة كما تظهر الصور المرفقة بالتحقيق. ضحايا درجة ثانية لم يكشف مكتب القائد العام قبل إلغائه في أيلول (سبتمبر) الماضي، أية تفاصيل عن نتائج التحقيقات التي أجريت حول انسحاب الفوج المكلف بحماية سجن بادوش، ومثلها فعلت وزارة الداخلية الاتحادية التي لم تعلن أية نتائج عن التحقيقات التي أجريت لمعرفة أسباب انسحاب عناصر الشرطة الاتحادية من بوابة وأبراج السجن. هذا الصمت الذي أحاط بقضية سجن بادوش، كما يقول حامد خليل وهو أحد الناشطين من أهالي الضحايا، بدأ منذ اليوم الأول للمجزرة. «فلم نسمع حينها من رئيس الوزراء أو نائب رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو وزير العدل، ولا حتى من البرلمانيين، كلمة إدانة واحدة لما حصل لسجناء بادوش». يعتقد محمد الكوفي الذي فقد الاتصال بأخيه أحمد منذ وصوله لبوابة الشام، أن هؤلاء، «ربما اعتبروا بأن الضحايا أقل شأناً من أن يكلفوا أنفسهم إدانة عملية قتلهم، أو أن كونهم سجناء يضعهم في مرتبة أدنى من باقي ضحايا داعش». إلى أن يكشف تنظيم «داعش» بنفسه عما فعله بسجناء بادوش، أو تسارع وزارة العدل والحكومة العراقية في إنجاز تحقيقاتها والكشف عن مصير السجناء المفقودين، ستظل شهادات الناجين السبعة الذين شاركوا في هذا التحقيق، هي التفسير الوحيد لما حصل يوم 10 حزيران (يونيو) لسجناء بادوش. يتحفظ كاتب التحقيق والشهود الناجين، على ذكر أية أمكنة أو شخصيات ساعدت الناجين في الهروب من المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم «داعش»، تجنباً لتعريضهم لأية مخاطر.