تلقيت الأسبوع الماضي سيلاً من الرسائل والتعليقات على مقالي «أيها المحتسبون. أفلا تعقلون»، انقسموا ما بين مؤيد ومعارض، وهذه طبيعة بشرية وسنة حياتية لن تتوقف. وهنا أود أن أعرج في مقالي اليوم على خلفيات الاحتساب ومن في دائرته، وكيف أنهم لا يبالون في خلق مساحات من الجدل والتجادل بغية تنفيذ آراء شخصية ذاتية ومشخصنة بعيداً عن الهدف الأسمى وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا أود أن أؤكد أن بعض المحتسبين خارجون من بوابات العمل الرسمي إلى ساحات الوصاية الشخصية، ولو أمعنا في شخصيات البعض بتحليل نفسي عميق فإنهم لا يتجاوزن مجموعة من الأشخاص يحاولون إشباع الذوات بفرط التوجيه على الآخرين وعرض الشخصية وفق منطقهم، وفرض الرأي المشبع بالإفتاء في مسألة معينة، وهذه أول نقاط التعارض مع الدين ومع سماحة الإسلام التي أكد الله جل شأنه في كتابه الكريم أن الوعظ والنصح يكون في دائرة من الموعظة الحسنة والحكمة، ولكن الاحتساب لدينا يبعد كثيراً عن التوجيه الإلهي فيدخل في مسألة التكفير والدخول في ذمم الآخرين ويبتعد أكثر من الوعظ الحسن والحكمة إلى الغلظة والشدة والجهل، وبذلك فهذه مخالفة شرعية ضد من يحتسب، إضافة إلى أن هؤلاء المحتسبين يتجاوزن مسلمات الأنظمة التي أوصى ديننا الحنيف باتباعها في بث روح السلام والألفة وحتى المشاورة، فهنالك في البلد الذي يحكم بشرع الله جهات رسمية شرعية تتمثل في الافتاء وفي الشؤون الإسلامية وفي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي وجود جهات أمنية تفرض الأمن وتواجه الفوضى، وبالتالي فإن المحتسبين الغارقين في شدتهم وتشبثهم بالتطرف يتجاوزن نظاماً يدخل في إطار طاعة ولي الأمر وهو نص إلهي قويم مسلم به متجاوزين كل المنطقية حتى في التشاور أو النصح المفترض في الرفع بملاحظاتهم إن كانت مجدية، والرد في هذا الجانب يقف عليه كبار العلماء الذين نهلوا علمهم الشرعي من منطلقاته الصحيحة وليس من محاضرات جائلة في مخيمات صيفية أو جلسات رفاق وأصدقاء في حديقة أو متنزه تم من خلالها «اكتساب « مهارات الاحتساب والانطلاق في أرض المعارض وساحات المهرجانات بحثاً عن وأد الفرح ومصادرة البهجة وفرض التعنت والتشدد. وهم يعارضون ما قاله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن (الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شأنه).. وهم قد نزعوا الرفق من أنفسهم وأرواحهم ومن كل الأمور التي يدعون فيها أنهم محتسبن. إن وجود هذه الفوضى التي حان الوقت لأن تتعاون الجهات المعنية في وقف سلبياتها كرست مناخات من الانتساب المجاني المبرمج على اتباع قادة الاحتساب ومسايرة مناهجهم، حتى بات المحتسبون يلاحقون البشر في الشوارع بنظراتهم وتجهمهم وكأنهم أوصياء على سلوكيات البشر، متناسين الأنظمة متجاهلين نهج الدين الإسلامي القويم في معالجة الأخطاء إن وُجدت وتصحيح السلبيات إن ظهرت. انشغلنا كثيراً بظواهر طبيعية وتنموية وتناسينا الظواهر البشرية التي تعد من أهم أولويات الدراسات والأبحاث في مجتمع تتوالد فيه أجيال وفي وطن ينعم بالخير ويواصل خطاه الثابته نحو المستقبل المشرق. لقد بات الاحتساب في الخمس السنوات الأخيرة ظاهرة مؤرقة ظهر في الثمانينات مع ثورة الصحوة ثم تراجع واختفى فترة من الوقت بعد الالتفات له ووضع السبل الكفيلة بمواجهته، أضر الناس حينها وأضر أكثر بتنمية الإنسان.. تراجع عدد ممن نادوا بذلك وساروا في طريق الاعتدال.. ثم عاد للظهور في الخمس السنوات الأخيرة بقية إكمال مخطط الفوضى الاحتسابية المتعارضة مع كل محفل أو احتفال، المعارضة لكل فرح أو مرح. وزادت في ظل إعادة هيكلة صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم وجودهم في زمان صلاحياتها الواسعة ولكن الأمر يحتاج وقفة ودراسة مستفيضة لذلك تقوم به الجهات المعنية بالصلاح والفلاح في الوطن وأن يتم سن قوانين صارمة وقاسية على كل من يقفز على أسوار الأنظمة ويتجاهل التعليمات ويفرض الوصاية على البشر ويشيع الفوضى والعشوائية واللامنطقية مع كل محفل وطني أو مناسبة ثقافية أو اجتماعية ليظهر بصورة النصح في جلباب «التطرف» ويطغي بإطارات الإرشاد في أقنعة المصلح. آن الأوان لمعاقبة من ينتسب للاحتساب أو من يريد أن يكتسب «سطوته» للنيل من الآخرين وفرض آرائه على محيطات حياتهم.