تحقيق: هند مكاوي النوستالجيا، هي حالة من الحنين للماضي، سواء لأشخاص أو أماكن أو لذكريات، أو مواقف وتجارب. هذه الحالة تجعل الإنسان يفقد طعم حاضره ويرفضه، فكل جيل يعشق أياماً معينة من حياته، ويتمنى الرجوع إليها والعيش فيها مرة أخرى، ويسميها الماضي الجميل، أو أيام الطيبين، أو يصفها ب عندما كانت الدنيا بخير، ويعشق كل شيء متواجد في حاضره، يذكّره بالماضي أو بأشياء احتفظ بها منذ تلك الفترة، ومازالت معه مثل: أشخاص، أو صور تذكارية، أو ربما تكون ملابس أو منتجات. والنوستالجيا غالباً تحفز الماضي وتنقيه من اللحظات الحزينة، وتترك لحظات السعادة العالقة في أذهاننا. يؤكد علي سعيد، مدير عام الشؤون الصحية بمجموعة برايم الصحية، أن ماضي الإنسان هو حاضره، وأن الشخص الذي يدعي بأن ليس له ماضٍ لن يكون له حاضر. وأشار إلى أنه دائماً ما يتذكر ماضيه، من خلال أهله في مسقط رأسه بمصر، وأهل بلدته وطفولته البسيطة، التي كانت خالية من التكلف والمشاغل الذي نعيشها اليوم في حياتنا اليومية، بالعمل، وفي مختلف مناحي الحياة. ويلفت إلى أنه دائماً ما ينصح أولاده في الطفولة بالصلاة والاجتهاد في دراستهم، والتحلي بالأخلاق الكريمة، وحسن معاملة الآخرين، وتكوين صداقات ستكون لهم ذكرى عندما يكبرون ويتذكرون هذه الأيام. ويضيف: بمجرد أن يكبر الطفل، أبدأ في نصيحته بالاجتهاد في العمل، وأنصحه أن يصل الأرحام، وأن يتحلى بالأخلاق الكريمة، وبر الوالدين، وهو ما تربينا عليه في صغرنا، وتعودنا على القيام به. وقال علي سعيد: أتذكر الماضي بكل صغيرة وكبيرة، وكل ما حدث في طفولتي وشبابي، يمر أمامي بشكل مستمر، الماضي شيء جميل، خاصة عندما كنا في بيت واحد مع أشقائي، ونتعلم من والدينا كل شيء، لكن بالتأكيد المستقبل سيكون جيداً وأفضل، ما دام الإنسان على صلة دائمة بالله، ويرضى بما كتبه له، وأحن كذلك للماضي من خلال الأفلام والأغاني القديمة دائماً، وبالتأكيد أحن لأصحاب الماضي ومازالت على تواصل دائم معهم. وأضاف: هناك فرق كبير بين الماضي والحاضر، فالأول كان جميلاً خالياً من الأمراض المنتشرة حالياً. أما العصر الحالي فهو للإلكترونيات، وقد يكون جميلاً أيضاً، لكن انتشار الأمراض والفقر والغلاء، زاد من هموم الناس. في الماضي كان الناس بسطاء مخلصين، لديهم الحياء، وكانوا يحبون صلة الأرحام، أما الناس في الحاضر، فكثير منهم لا يصل رحمه، ولا يستحي، وهنا يكثر الكبر والنفاق في الكثير من الأوقات. تقول ناهد عبدالله سيدة أعمال: لكل زمن مذاق خاص، لكن الماضي يميزه الدفء والبساطة والود والحب الصافي البعيد عن المصالح. ولأني قضيت الفترات الأولى من حياتي في البحرين، وبعدها انتقلت إلى الإمارات، فلدي ذكريات جميلة هناك وسط الأهل والأصدقاء، وكثيراً ما أحن إلى والدتي، رحمها الله، وأتمنى أن تعود أيام الخير مرة أخرى، وأتذكرها دائماً في جميع مواقف حياتي، خاصة في اللحظات الفارقة، سواء الحزينة أو السعيدة، وأحدث نفسي: لو كانت معي في هذه المواقف لتغيرت الكثير من الأمور، كما أتذكر أنها كانت دائماً تفتح أبواب بيتنا للجميع من الأهل والأصدقاء والأقارب، منذ السابعة صباحاً، وكان البيت دائماً عامراً بخيرات الله، وهذا ما نفتقده في أيامنا الحالية من دفء وود، والشعور ببرود في الحياة، بسبب أن التكنولوجيا غلبت عليها، وحولتنا إلى مجرد آلات جافة بلا مشاعر، كما أن أصدقاء زمان، علاقتي بهم ذات طابع مميز، ومازالت على تواصل معهم، وأشعر أن علاقتي بهم غير علاقتي مع الأصدقاء الحاليين، فأشعر أن العلاقات الحالية تغلب عليها المصلحة، إذا كان معك تجد الكل يحبونك، أما عكس ذلك فتجد الكل يبتعد، على عكس زمان.. زمن الحب النقي؛ حيث تجد الجميع بلا نفاق أو أحقاد، ويحبونك لشخصك، لذلك أنوي أن أقوم بزيارة للبحرين لزيارة الأهل والأصدقاء، واستدعاء الذكريات، ووالدي رجل مسن، وأحرص على رعايته بنفسي، ويقص علينا دائماً كيف كانت حياتهم قديماً ورحلات الغوص والبحر، فوالدي يشعرني بدفء أيام زمان أيام الطيبين، كما يطلقون عليها. الحنين لدى سالي سعد، ربة بيت، وصل إلى درجة من المعاناة في أوقات كثيرة. وتقول عن ذلك: تغلب عليّ هذه الحالة كثيراً، خاصة لأنني مغتربة عن بلادي وعن أهلي وأصدقائي، ودائماً ما أحن إليهم وجلساتنا ومواقفنا، وكيف كان ذلك يؤثر نفسياً بشكل إيجابي، وأتمنى عودة هذه الأيام مرة أخرى، لكن الظروف هي التي اضطرتني للغربة، ورغم وجود كل وسائل الحياة المريحة في بلدي الثاني الإمارات، إلا أن الإنسان لا يستطيع أن ينسى ماضيه، والبلد التي نشأ فيه، فدائماً صوت والدتي يتردد في أذني، ونصائحها دائماً تصاحبني، وفي بعض الأحيان أصل إلى حالة رفض للواقع، وعدم الرغبة في الاستمرار، وأجد نفسي أثيرة الذكريات، فدائماً ما أحن إلى شوارع بلدي وطقوسنا وعاداتنا وأكلات والدتي المميزة، ولمة العائلة ودفء الأسرة، خاصة عندما يأتي شهر رمضان الكريم، وتضطرني الظروف لعدم قضائه مع الأهل، وهنا أشعر بحنين قوي لأيام رمضان.. زمان الطقوس، التي أفتقدها هنا، مثل: المسحراتي وتجمع الأسرة وتناول الفطار، وتبادل الزيارات العائلية والعزومات والذهاب مع أقاربي لصلاة التراويح. عندما كانت أسماء لوتاه خبيرة تجميل،تستعد للانتقال من منزل إلى آخر، صادفت أوراقاً وصوراً، منذ أن كانت في مرحلة التمهيدي. تقول: سافرت إلى عالم آخر عندما وجدت صوراً لذكريات لي مع أهلي وأخواتي من خلال مشاهدة الصور القديمة، ووجدت نفسي أستغرق في الماضي والحنين إليه، ووجدت شهاداتي الدراسية وجميعها بتفوق، وحرصت أن يطلع أبنائي عليها لتكون حافزاً لهم على الاجتهاد والنجاح، وأحن لأيام زمان عندما كنا نذهب إلى مركز الغرير مع أقاربي، ونستمتع بمدينة ألعاب السندباد، وكان ذلك بالنسبة لنا شيء عظيم، والتجمع مع الأهل، والذهاب للبحر، والاستمتاع بالطبيعة، فأنا كثيراً ما أتذكر الماضي بتفاصيله المختلفة، وفي الوقت نفسه، استمتع بالحاضر ومميزاته، وهناك مقاطع فيديو منتشرة على مواقع التواصل، تحمل تفاصيل لذكريات زمان، مثل الأغاني القديمة، وأشكال الفنانين، وكيف كانت غريبة، والحلوى زمان، وكيف كان شكلها، كل ذلك يذكرني بالماضي، كما أتذكر أغنية للمطربة لطيفة، تجعلني أتذكر مواقف مرتبطة بهذه الأغنية. صفحاتتوجد العديد من الصفحات التي تتحدث عن الماضي على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، مثل صفحة old is gold، التي تنشر مقاطع فيديو لأغان قديمة للمطربين، مع كتابة تاريخ الأغنية، ونشرت مجموعة أغاني قديمة للمطربة سميرة سعيدة، بمناسبة الاحتفال بيوم ميلادها ال 59، ومنها أغنية واحشني بصحيح والتي أذيعت في عام 1982، وأغنية قال جاني بعد يومين، وأغنية مش هتنازل عنك أبداً في عام 1987، كما تنشر الصفحة روائع قديمة للمطربين مثل: فيروز، وأم كلثوم، ووردة، وعبدالحليم حافظ، وليلى مراد، وأغاني مقدمة المسلسلات القديمة، وأغاني الأفلام القديمة، وتحظى هذه الصفحة بمتابعة كبيرة من المشتركين في موقع الفيس بوك، تصل إلى 200000 متابع، وهناك العديد من التعليقات من المتابعين على كل مقطع وذكرياته معه، ومنهم من يحكي الذكريات المرتبطة معه بهذه الأغنية أو الفيلم، وهناك صفحة أخرى بمسمى وتبقى الذكريات، وتختص بنشر كل ما يخص الماضي من فنانين وأغان ومنتجات، مثل نشر صورة لبسكويت قديم يسمى بيميو، وكان منتشراً بشكل كبير، في فترة التسعينات، ويعشقه الكبار والصغار، وصورة لغلاف كيس رقائق البطاطس، وكيف كان تصميمه ، وصور للتلفزيونات القديمة، قبل انتشار الفضائيات، وتفاعل معجبو الصفحة بشكل كبير مع الموضوع، وبدأوا في سرد البرامج القديمة وذكرياتهم معها، عن طريق التعليقات، ومنهم من أشاد ببرامج اخترنا لك"، و"نادي السينما"، و"العلم والإيمان"، و"عالم الحيوان"، و"اليوم المفتوح"، وحديث الشيخ الشعراوي يوم الجمعة، والكاميرا الخفية، التي كانت مرتبطة دائماً بشهر رمضان، وتتجمع العائلة في موعد إذاعتها، لترسم البسمة والسعادة على وجوههم. وتنشر صفحة وتبقى الذكريات مقاطع من الأفلام الكرتونية المرتبطة بمعظم الأطفال في فترة الثمانينات والتسعينات، مثل امازنجر، وسلاحف النينجا، وصوراً لأغلفة الكتب المدرسية، وأشكال المطربين والفنانين قديماً، وتضع أحياناً، صورة قديمة وحديثة للفنانين، لتترك للمتابعين التعليقات، وتحظى هذه الصفحات وغيرها، من التي تتبع الفكرة نفسها، إقبالاً وإعجاباً كبيرين، من قبل متابعي وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك العديد من الصفحات التي تنشر تراث وتاريخ الإمارات، وكيف كانت حياة الآباء والأجداد، والمهن التي كان يمتهنونها زماناً، مثل مهنة الغوص، وصيد اللؤلؤ، والملابس التقليدية التراثية، وصور عن الأماكن القديمة في دولة الإمارات ومراحل تطورها. برامج تستثمر الفكرة اتجهت العديد من البرامج والإعلانات التلفزيونية إلى استحضار الماضي ومزجه بالحاضر. الفكرة لاقت إعجاباً ومشاهدة كبيرة، مثلما يحدث مع برنامج صاحبة السعادة، الذي تقدمه الفنانة إسعاد يونس على قناة سي بي سي المصرية. ويعتمد البرنامج على استضافة فنانين كانوا مشهورين واختفوا، ومنهم من عاد مرة أخرى، ومنهم من لم يعد، ويبدأون بحكاية مشوارهم الفني، وأبرز محطاتهم، وأكثر الأعمال التي أثرت في المشاهدين، واستدعاء الذكريات من خلال عرض المشاهد سواء في المسلسلات أو الأفلام، أو المطرب، الذي قدم أغنية تركت أثراً وذكريات مع كثير من المشاهدين. ويلقى البرنامج نسب مشاهدة كبيرة، نظراً لأنه يجعل المشاهدين يستدعون الماضي بكل تفاصيله، ويحنون لأيام الزمن الجميل، على غرار ذلك الإعلان التلفزيوني للمذيعة الشهيرة نجوى إبراهيم، التي كانت علامة بارزة في الماضي، من خلال برنامجها المشهور المخصص للصغار بقلظ وماما نجوى، لكنها انقطعت فترة كبيرة، ثم عادت، وتم الاستعانة بها مع الشخصية الكرتونية بقلظ، للترويج عن منتج معين، وتوصيل قيمته للجمهور، وكان له الأثر الإيجابي من قبل المشاهدين. وهناك صحف عربية تخصص صفحات لمواد وصور قديمة مثلت قيمة في وقتها أو كانت منعطفاً أو لا تزال تتداعى أو تتشابه مع أمور جارية. جزء من شخصية الإنسان د. هبة شركس، مستشارة نفسية وخبيرة أسرية، بأرت أند سينس انترناشيونال أكاديمي، تعتبر الحنين جزءاً من شخصية الإنسان يعبر عن التكامل عبر الزمن. وتقول الناس يحنون للماضي بدرجات مختلفة كل حسب ماضيه وأحداثه، ويجب أن يكون الماضي إثراء للحاضر وجذور للإنسان، تثبته في حاضره، وتجعله يتطلع لمستقبله بتفاؤل، يلجأ إليه ليتعلم منه ويدفعه للأمام، وكلما استطاع الإنسان أن يثري حاضره، كلما كان حنينه واشتياقه للماضي أقل، كما يجب أن تكون حالة الحنين إلى الماضي تحت السيطرة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا يستسلم للماضي بذكرياته، ويعيش أثير الماضي، وأن يكون منبع للخبرات، وعلى الإنسان أن يعلم جيداً أن حاضره ومستقبله سوف يصبح ماضياً، لذا لابد أن يعمل جاهداً أن يملأهما بالإيجابيات، حتى يكون ذكريات سعيدة. وترى أن الانخراط في الحنين للماضي، والعيش في هذه الحالة، والاستسلام لها، تجعل الإنسان عازفاً عن عيش الحاضر، وعدم الرضا به، وبالتالي يؤدي إلى غياب الحماس والدافع في التغيير، الذي يجعل الواقع مشرقاً، ويجب أن تكون لديه الإرادة والعزيمة التي تجعله يؤمن بأن بيديه تغيير السلبيات في حاضره إلى إيجابيات، عن طريق الإيمان بالله والتحلي بالصبر، وأن دوام الحال من المحال. وتشبه شركس النظر إلى الماضي وأهمية الاستفادة منه بسائق السيارة الذي يجب أن ينظر دائماً في المرايا أمامه، ليرى الطريق خلفه، حتى يأخذ لمحة سريعة عنه، ويتمسك الحيطة والحذر، حتى لا يصطدم بالسيارات أمامه. أما عن سرد ذكريات الأهل لأبنائهم، فهي، في رأيها، تخلق حالة من الونس والدفء، خاصة إذا قام بذلك شخص له أسلوب ممتع وشيق، فالأحداث المجردة ليس لها معنى، ويجب أن تمتزج بمشاعر من الدفء، ويجب أن يكون الحنين إلى الماضي بمثابة تثبيت جذورنا في الأرض، لنخلق جواً من السعادة، التي هي عبارة عن طيف من المشاعر، كجزء يسكن الماضي، وآخريسكن الحاضر.