يُحكى أنّ ثلاثة طيور زارت حمامة برّية وسألتها: - (أيّتها الحمامة الحكيمة، كيف يمكننا أن نبني عشّا كعشّك)؟ فأجابت الحمامة: (تعالوا، اقتربوا وراقبوني، وأصغوا إلىَّ جيِّدًا، وسأعلّمكم ذلك). ولم تلبث أن تناولت غصنًا من الشجر حتى صاح أحد الطيور قائلاً: - (هكذا تصنعين عشّك إذن! هذا كلّ ما في الأمر! لقد عرفت كلّ شيء). ثم طار مبتعدًا.. وكان ذلك هو كلّ ما تعلّمه عن بناء العش! فتناولت الحمامة غصنًا آخر، فصاح الطائر الآخر: (لقد فهمت، لقد أدركت.. هكذا يُبنى العش.. لقد عرفت كل شيء)! ثم طار مسرعًا، وكان ذلك كل ما تعلّمه عن بناء العش!! وبعد ذلك وضعت الحمامة ريشًا وأوراقًا بين الأغصان، فصاح الطائر الثالث: (لقد عرفت الآن كلَّ شيء عن بناء العش)! ثم طار محلِّقًا وابتعد.. وكان ذلك كلّ ما تعلّمه عن بناء العش. تعجَّبت الحمامة من تصرّفات الطيور الثلاثة قائلة: كيف يتسنّى لي تعليم هذه الطيور بناء أعشاشها، إذا كانت لا تملك الصبر على التعلّم؟! وحسن الإصغاء، ومراقبة المعلّم)!! هذه القصّة تبيّن حال كثير من الناس في مسألة التعلّم.. فهم يريدون التعلّم السريع.. يريدون تعلُّمًا على هيئة وجبة سريعة، تُعدُّ سريعًا، وتخلو من القيمة والفائدة.. يقرؤون كتابًا هنا، وآخر هناك، ثم يدّعون أنهم حازوا العلم، وطفقوا يتكلّمون في هذا العلم وذاك، وكأنهم علاّمة فيه. ومنهم من يقفز من كرسي لآخر في مجالس العلم، يحضر هنا ساعة، وفي مجلس آخر ساعة، ثم يخرج على الناس يحدّث بينهم بما سمع، وما ظن أنه تعلّمه، ويحسب نفسه أنه يحسن صنعًا، ولا يعلم أنه يضل نفسه، وقد يضّل غيره بمعلومات متناثرة مبعثرة لا يبحث وراءها إلاّ عن ادّعاء العلم والفهم والمعرفة، والتباهي أمام الناس بأنه مثقف متعلّم. وقد كثر هؤلاء الذين يقطفون من كل بستان زهرة، ثم يدّعون أنهم قد ملكوا بستانًا، أو حديقة غنّاء!! فهم في كلّ مجلس وندوة ومحاضرة ودرس.. وحجّتهم التوسّع في العلم والمعرفة، ومنطقهم: (العلم بالشيء ولا الجهل به)!! ولم يعلموا أن العلم حّجة على صاحبه، وأن الانتفاع والفلاح يكون بالاشتغال بالعلم المنتقى، المعمول به لا المعلوم به. فمن ترك العمل بما تعلّم أوشك الله أن يسلبه ما تعلّم.. وصار علمه وبالاً عليه.. ومن اشتغل بفضول العلوم أوشك أن يضلّ، ومن يفعل ذلك يريد عرضًا من الدنيا كان كمن قال عنه النبي صلّى الله عليه وسلم: (مَن تعلّم علمًا ممّا يبتغي به وجه الله لا يتعلّمه إلاّ ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) -أي ريحها-. وقال أيضًا: (مَن طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار). إنّ للعلم والتعلّم آدابًا وقواعدَ وأصولاً ضيّعها الكثيرون، وربما لم يتعلّموها قط.. كما أن لهما أمانتهما، ووقارهما الذي استهتر به البعض، ففعلوا كما فعلت الطيور الثلاثة مع الحمامة البّرية، لا هي تعلمت وفهمت، ولا نفعها ما أدّعت تعلّمه. alshaden@live.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (46) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain