لعله كان من حسن الصدف أن يصادف تاريخ ميلادي، السنة نفسها التي أبرِمَت فيها اتفاقية منح امتياز التنقيب عن البترول في المملكة العربية السعودية للشركات الأمريكية، في عام 1933م. وربما أن ذلك كان من أسباب تعلقي بهذه المؤسسة العملاقة ورغبتي الملِحَة للالتحاق بها. وقد أدركت مرامي، ولكن بعد ثلاث محاولات تفصلها عن بعضها سنوات طويلة. وكانت المحاولة الأولى في أوائل عام 1949. ولكن لم يُكتب لي آنذاك التوفيق لأسباب تتعلق بفحص بالنظر، لضعف مزمن في العين اليسرى. وكان عمري في حدود الـ 16. فعاودت الكرة مرة ثانية بعد ثلاث سنوات، أي في عام 1952. ولم تكن النتيجة بأفضل من سابقتها. عُدت أدراجي وأنا أندب سوء الحظ ولكني لم أكن غاضبا، وقلت في نفسي لعل المانع إن شاء الله خير. فذهبت إلى سبيلي والرغبة لا تزال عالقة في مخيلتي وباقية في ذهني، انتظارا لحلول الوقت المناسب. دخلت معترك الحياة من باب آخر ومارست الكثير من الأعمال البسيطة والمتواضعة حتى يسر الله لي إكمال تعليمي وابتُعِثت إلى الولايات المتحدة لدراسة هندسة البترول، ومع شهادة التخرج لم أبذل حينئذ جهدا كبيرا للالتحاق بمحبوبتي شركة أرامكو، بعد 15 عاما من المحاولة الأولى، وها هي الآن، بعد 80 عاما من عمرها المديد، شبابها لا يزال يتجدد مع مرور الوقت وأنا أزداد هرما. ظلت الشركة تحمل اسمها المميز، أرامكو حتى انتقلت ملكيتها بالكامل إلى الحكومة السعودية في عام 1985 حيث تغير إلى "شركة أرامكو السعودية"، وهو اسمها الحالي، تغير الاسم ولكن لم يتغير الجوهر، وانتقلت الإدارة من الشركات الأمريكية إلى المسؤولية الوطنية ولم تتأثر كفاءة الأداء. كانت فلسفة العمل الوظيفي في شركة أرامكو منذ إنشائها التقيد بأصول السلامة والانضباط والأداء المتميز والعمل كوحدة واحدة، وكانت العلاقة بين الحكومة السعودية المضِيفة وبين شركة أرامكو خلال مدة سريان الاتفاقية التي امتدت إلى أكثر من 50 عاما، مثالا للاحترام والثقة المتبادَلة بين الطرفين، حتى إن المفاوضات الطويلة والمضنية التي دارت بين الفريقين من أجل نقل ملكية الامتياز، والتي امتدت من أوائل السبعينيات إلى منتصف الثمانينات، كانت تجري في منتهى السرية المطلوبة في مثل تلك الظروف، ولم يظهر إلى وسائل الإعلام، التي دائما تبحث عن المثير من الأخبار، وجود أي خلاف أو سوء تفاهم، وتم نقل الملكية بهدوء وسلام ومعه السلطة الإدارية إلى الأيدي الوطنية، التي كانت منذ الستينيات وهي تتطلع إلى تحقيق هذا الهدف الوطني السامي، ولم تألُ الإدارة الجديدة جهدا في إتمام المسيرة المباركة لهذه الشركة العملاقة المتميزة بكل المقاييس، وتسير بها من حال إلى أفضل. وبعد ما يقرب من 30 عاما، منذ تحوُل شركة أرامكو إلى مؤسسة وطنية، تضاعف نشاطها في مجالات الطاقة والإنشاءات وتنوع الاستثمارات الداخلية والخارجية. ففي أوائل التسعينيات، وبتوجيه من القيادة العلياء، انتقلت شركة سمارك بكامل مسؤولياتها إلى أرامكو السعودية، وفي منتصف التسعينيات أتمت إنشاء معامل إنتاج حقول منطقة الحوطة التي تم اكتشافها في أواخر الثمانينيات. وبترول الحوطة من النوع الخفيف المتميز الذي يخلو من مادة الكبريت، وهو ما يرفع من قيمته السعرية في السوق النفطية. ومع بدء انتعاش الطلب العالمي على مصادر الطاقة بعد منتصف التسعينيات تبنت شركة أرامكو عدة برامج استراتيجية وإنشائية تفوق في حجمها وكميات إنتاجها وتحديات مواقعها أي مشروع بترولي عبر الـ 150 عاما من بدأ استغلال البترول كمصدر للطاقة. فقد صممت وأنشأت مرافق إنتاج حقل الشيبة في منطقة الربع الخالي في زمن قياسي لم يتعد الثلاث سنوات، على الرغم من صعوبة ووعورة الوصول إليه والعمل وسط الكثبان الرملية الهائلة، وقد تم تصميم المعمل لإنتاج 700 ألف برميل في اليوم، إلى جانب مرافق إعادة حقن الغاز المصاحب داخل المكامن لغرض المحافظة على مستوى الضغط ولتفادي حرقه. وقد تم تدشين معامل الشيبة بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله. وقد أصبح معمل الإنتاج هناك، بين قمم الكثبان الرملية العالية، معلما من معالم المنشآت البترولية المتميزة في العالم. وبعد الانتهاء من إقامة مُنشآت الشيبة، كانت الشركة على موعد مع إقامة عدة مشاريع لا تقل أهمية. منها معامل الغاز غير المصاحب العملاقة في الحوية وحرض، ومن هنا بدأ العمل في تصميم وإنشاء أكبر معمل للإنتاج في العالم في منطقة خريص، التي لا تبعد عن الرياض إلا 130 كيلومتر شرقا، باستثناء ربما معمل حقل السفانية المغمور في المنطقة الشمالية من عمليات أرامكو. ومعمل خريص مصمم لإنتاج مليون و200 ألف برميل يوميا في الوقت الحاضر. وهناك مخطط جديد لبناء مرافق إضافية تسمح برفع طاقة معمل خريص إلى مليون و500 ألف برميل وحقل شيبة إلى مليون برميل. وجميع هذه المشاريع الضخمة، في أحجامها القياسية وتحدياتها الفنية والتكنولوجية، تم إنشاؤها على مستوى رفيع من المهنية وحسن التنظيم والتخطيط وسرعة التنفيذ، وبمجهود وتمويل ذاتي من الشركة. ولم تكن المنطقة الشمالية أقل حظا أو نصيبا من المشاريع الحديثة العملاقة، فقد أولتها الشركة اهتماما خاصا فور الانتهاء من المشاريع الجديدة في المنطقة الجنوبية، فقامت بإنشاء مرافق حقل القطيف ومرافق الخراسانية لتجميع الغاز القادم من الحقول البحرية والمجاورة. ومسك الختام تصميم وإنشاء معامل حقل منيفة المغمور، وقد تميز بناء مشروع حقل منيفة بالكثير من الإبداع واستخدام أفضل السبل والوسائل المتاحة لتفادي نقل عمليات الإنتاج إلى داخل البحر، وهو ما كان سيضاعف من التكلفة التشغيلية، فقد تفتقت الأذهان عن فكرة إنشاء جزر صناعية داخل البحر وربطها بطرق مرصوفة تمتد إلى الشاطئ، وهذا يسمح لأجهزة الحفر العادية بالوصول إلى مواقع الآبار بسهولة ويسر دون حاجة لاستخدام بوارج الحفر باهظة الثمن، وسيساهم ذلك في خفض تكاليف التشغيل والصيانة على مدى عمر الحقل، وقد صمم المعمل لإنتاج 900 ألف برميل في اليوم، ومن المحتمل رفع هذه الكمية خلال السنوات القليلة المقبلة، بإنشاء مرافق إضافية جديدة. والسمعة المتميزة التي تتمتع بها شركة أرامكو السعودية في سرعة ودقة تنفيذها للمشاريع العملاقة، وهو مفخرة لكل منتسب لها، قد فتح عليها الباب لتكون ملجأ عندما يراد لمشروع جديد في أي موقع من نواحي المملكة أن يحظى باهتمام خاص، حتى ولو كان ذلك خارج نطاق اختصاصها ومجال أعمالها. وأول المشاريع المهمة التي أنيطت بالشركة مهمة تصميمها وإنشائها بنفس المواصفات والمعايير التي تطبقها في مشاريعها الخاصة، كانت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في المنطقة الغربية. ولم تقتصر مسؤولية شركة أرامكو فقط على إنشاء مرافق الجامعة السكنية والتعليمية، بل شمل ذلك أيضا تأسيس القاعدة الأكاديمية وبرامج البحوث العلمية للجامعة، بما في ذلك إبرام عقود المشاركة والتعاون مع مراكز بحوث عالمية وجامعات متميزة في هذه المجالات، وأشرفت الشركة على تسليم كافة مسؤوليات إدارة هذه الجامعة الفتية لإدارتها الجديدة المستقلة، مع استمرار الدعم الاستشاري واللوجيستي في حالة الحاجة إلى ذلك، وقامت الشركة، بتكليف من الدولة، بإنشاء ملعب رياضي جديد في جدة على أحدث المواصفات، أصبح حديث المجتمع من حيث جمال التصميم وسرعة التنفيذ ومهنية المتابعة. إلى جانب مشاريع إنشائية أخرى تحت التنفيذ في أكثر من منطقة. ومن الطبيعي أن شركة أرامكو السعودية، وهي المملوكة بالكامل للدولة، لديها صلاحيات محدودة لتساهم في الأنشطة الاجتماعية والترفيهية الهادفة والسلامة المرورية في المناطق المحيطة بأعمالها، وتتميز برامجها المنظمة عادة بشعبية كبيرة، ولعل آخر إبداعات أرامكو مشروع البرنامج الثقافي والعلمي "إثراء"، الذي يجري الآن عرضه في مختلف المدن الرئيسة داخل المملكة، وقد لاقى البرنامج ترحيبا شديدا من أفراد المجتمع ومن المسؤولين الذين انتهزوا فرصة زيارته. وتتبوأ شركة أرامكو السعودية مركزا عالميا متميزا، قلَ أو ربما يندر أن تحصل عليه أي شركة أو مؤسسة عالمية أخرى، فهي تدير عمليات متكاملة، بدءا من البحوث والدراسات العلمية إلى الاستكشاف والحفر والإنتاج، مرورا بعمليات التكرير والنقل والتسويق، حتى وصول المنتجات إلى المستهلك، وقد دخلت الشركة في السنوات الأخيرة، في خطوة جريئة وبُعد نظر، إلى عالم الصناعة البتروكيماوية الواسع، ولا نبالغ إذا قلنا إن أرامكو إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، جغرافيا وطوائفيا، حيث تمثل مكونات موظفيها معظم الشعوب والأجناس على وجه الأرض. وشركة أرامكو السعودية ليست فقط شركة طاقة متكاملة، فهي كما هي مهمتها تحويل البترول الخام إلى منتجات قابلة للاستخدام، فإنها لها أيضا باع طويل في صنع المهارات الإنسانية من مادة الإنسان الخام، مهما كان مستواه العلمي والأكاديمي، فقد طورت خلال تاريخها الطويل مهارات عشرات الألوف من الشباب الذين كانوا يلتحقون بها وليس لديهم من العلم والخبرة إلا النزر اليسير، وبعد سنوات من التدريب والتطوير أصبحوا قياديين في أكبر شركة بترول في العالم ويُشار إليهم بالبنان. فسياسة التعليم والتدريب في الشركة، منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، وضعت الشركة في مصاف المؤسسات التعليمية الراقية ذات المهنية المتميزة، وأصبح التدريب والتطوير في أرامكو السعودية من سمات نجاحها في مختلف ميادين عمليات الصناعة البترولية. وصار جزءا لا يتجزأ من فروع مهماتها الأساسية. ولا نبالغ إذا قلنا إن أرامكو بمثابة جامعة لصنع الرجال، إلا أن التخرج منها لا يتم إلا عند الوصول إلى سن التقاعد وانتهاء مدة الخدمة، فأثناء وجود الموظف على رأس العمل يعني أنه دائما يكون قابلا للتطوير عن طريق البرامج التدريبية والتأهيلية وصقل المهارات التي لا تتوقف عند عمرٍ أو مرتبة. وعندما تراقب العمل في أي موقع في الشركة، سواء كان ذلك في المعامل والمرافق العامة أو داخل الورش والمكاتب، فإنك تشاهد حركة وحيوية ونشاطا دؤوبا لا يتوقف طوال ساعات العمل، وتلاحظ الجد ظاهرا على وجوه الموظفين، وكل يؤدي الواجب المطلوب منه بجد واهتمام والتزام إلى أبعد الحدود بالحضور مع بداية الدوام، والرئيس يصل مقر العمل قبل المرؤوس، وعند انتهاء الدوام، قد تندهش وأنت تشاهد أفرادا يظلون في أعمالهم وقتا إضافيا من أجل إكمال بعض الواجبات أو إنهاء بعض التقارير والمهمات أو يحضرون اجتماعات متأخرة، حتى ولو استدعى ذلك تأخير عودتهم إلى أهليهم وذويهم، والإنسان في شركة أرامكو هو الشجرة المثمرة التي تحرص الشركة على رعايتها والاهتمام بها. وكما يقول المثل "هو رأس المال". ومن النادر أن يتعثر مشروع تتولى إدارته شركة أرامكو السعودية، وليس هذا من باب الحظ، ولكنه التخطيط السليم وحسن اختيار الجهة المنفذة والمتابعة ووضوح الرؤية والهدف. وعلى الرغم من أن المعايير الهندسية والتطبيقية التي تحددها الشركة ضمن مواصفات المشروع عالية وقاسية، إلا أنها تصر على التقيد بها مهما كلف ذلك من جهد. وفي الغالب فالشركة تعمل تقديرا مبدئيا لتكلفة المشروع مهما كان حجمه لمقارنته بتكلفة العطاءات المقدَمَة والتأكد من أن الجهة التي تفوز بتنفيذه على يقين من التكلفة الحقيقية، مع الأخذ في عين الاعتبار هامش الربح المعقول، ولا تسمح الشركة بانتقال أي مشروع أو أي جزء منه من المقاول الأصلي إلى أطراف أخرى إلا بموافقة مسبقة وفي حدود ضيقة تتعلق باستخدام معدات معينة قد لا يمتلكها المقاول الأول. ولدى الشركة قائمة بالمقاولين المؤهلين الذين سبق وأن أثبتوا للشركة قدرتهم وجدارتهم لتنفيذ المشاريع المعروضة. ولا شك في أن سر نجاح مشاريع الشركة يعود إلى التعاون الكامل والمتبادَل بين أطراف معادلة إدارة المشاريع والدوائر ذات الاختصاص، وقد تطورت مسيرة التعاون أثناء تنفيذ المشاريع بين الأطراف المختلفة في الشركة خلال السنوات الأخيرة إلى درجة تدعو إلى الإعجاب. وتتوقع الشركة من الآن فصاعدا تحديات جديدة تتمثل في الاتجاه نحو إنتاج البترول والغاز الأكثر تكلفة والأصعب إنتاجا، وهي تحديات تقنية ومالية ولوجستية، سواء كان الإنتاج من الحقول التي تقدم بها العمر وأصبحت بحاجة إلى تنشيط وعناية أكبر أو المصادر الجديدة المعروف عنها الشح في كمية الإنتاج، ولا نستبعد أن يزداد اهتمام شركة أرامكو السعودية بمصادر الطاقة المتجددة واستخدامها في المناطق النائية من أجل توفير أكبر كمية ممكنة من الوقود الهيدروكربوني والتقليل من مشقة وتكلفة نقله إلى مواقع الاستهلاك. وهذا يتناغم مع التوجه الجديد للشركة بأن تصبح شركة طاقة متكاملة، ومن اهتمامات واستراتيجيات شركة أرامكو السعودية المستقبلية التركيز على الأبحاث العلمية والتطوير، مع التأكيد على مشاركة المواطن وأن يكون جزءا رئيسا وفاعلا من منظومة الأعمال البحثية. ولعلي أقتبس فقرة قصيرة من خطاب رئيس أرامكو السعودية، المهندس خالد الفالح، منذ أسابيع، الذي ألقاه في مؤتمر ومعرض حقول بحر الشمال، "نحن في أرامكو السعودية على قناعة تامة بأن الابتكار والتقنيات الحديثة يمثلان عوامل التمكين الاستراتيجية الأهم لنجاحاتنا الحالية، وتنافسيتنا المستقبلية، وهو السبب الذي يدعونا إلى مضاعفة أعداد موظفينا العاملين في مجال البحث والتطوير إلى ثلاثة أضعاف، وزيادة تمويل مشاريع البحث والتطوير إلى خمسة أضعاف، كما أن أرامكو السعودية، من خلال أحد أهدافها التي ترمي إلى تسنُم الشركة مكانة ريادية في مجال الابتكارات التقنية في 12 نطاقا، تتجه بخطى وطيدة وثابتة نحو زيادة معدل استخلاص النفط من حقولها بنسبة 70 في المائة".