خرج المجتمع عن صمته بعد أن استمر ذلك الصمت لأزمنة طويلة كان فيها يغرق في قوالب ثابتة تأخذ مبدأ العادة بأنها "الصح" وغير المألوف بأنه "الخطأ"، خرج المجتمع من تلك العباءة القديمة ليبدأ عهدا جديدا من الحديث المسترسل حول كل ما يتعلق بحياته، يومياته، قضاياه.. ولكن وبرغم تلك المحاولات فسرعان ما يعود إلى طباعه القديمة في إخضاع الأمور إلى خطاب واحد يؤمن به أيا كان ذلك الخطاب.. ومع تسارع الأحداث، ومع تغير الظروف الاقتصادية، علي الرباعي: نرجسية الثقافة ونفعية الوعظ لن تؤديا إلا إلى واقع صادم للمجتمع المتلقي وبالإضافة إلى اتساع مساحة التعبير عن الرأي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بدأ الجمهور يتعلم لغة الكلام التي كانت غائبة عنه، في الوقت الذي طالت جدا لغة الخطابات الموجهة والتي تعتبر الأكثر تأثيرا على الناس، فهناك الخطاب الديني وهو الخطاب الأكثر تأثيرا، وهناك الخطاب السياسي وهو الأكثر حضورا وهيبة، وهناك الخطاب الثقافي وهو الأكثر تأملا وفكرا. ولكنه الأصعب دائما.. وعلى الرغم من اختلاف وتباين الخطابات على الساحة كان المجتمع فقط هو جمهور جميع تلك الخطابات التي تأثر البعض في بعضها، في حين بقي الآخر من شرائح المجتمع متمسكا بعاداته، بتقاليده أكثر من كونه متشبثا بإيمان ووعي.. وفضل البقية الأخيرة الصمت على أن يدخل في تلك الحروب المعلنة التي أصبحت تدار من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وتطرح على شكل تغريدات.. في الوقت الذي مازال المجتمع خارج ذلك العالم الافتراضي يمارس طقوسه الحياتية بشيء من السطحية وبالقليل من محاولة التغير والتغلب على ممارسات حياتية تتلقى فقط أكثر من أن تنتج... وبقي الصراع الكبير بين الخطاب الوعظي الديني وبين الخطاب الثقافي الذي لم يعد يهمه كثيرا أن يتغلب على خصمه بقدر ما أصبح في أوقات يشارك وربما انسحب كثيرا ترفعا عن اختلاف وتباين الجمهور حوله وتشكيكهم في نواياه.. فإلى أين يذهب هذا المجتمع؟ وهل حدث فعلا التغيير بما يتناسب مع أطروحات الفكر والارتقاء بالإنسان؟ هل استطاع المجتمع أن يطرح ويناقش ويتأمل قضاياه من منطلق الوعي العميق متوازيا بين الخطاب الذي يؤمن به "الخطاب الديني" وبين الخطاب الذي أصبح يغريه "الثقافي"؟ أم أن الصراع بين الخطابات هنا صراع تنافس وبقاء أكثر من كونه مرحلة للتغير وللارتقاء بحياة وعالم هذا الكائن الذي اسمه الإنسان؟ نقطة التقاء يقول الدكتور علي الرباعي - الكاتب والناقد - بأن هناك مجتمعات نخبوية من الممكن أن تتفاعل مع الخطاب الثقافي وأطروحاته، وهناك مجتمعات مستسلمة للخطاب الوعظي أكثر من الخطاب الثقافي وترى بأن الخطاب الوعظي يضمن حياة سعيدة وآخرة أيضا فيها نجاة وسلامة، والمثقف غالبا ما يركز على قضايا نخبوية وربما تكون غالبا أعلى من استيعاب المجتمع لها، فالمجتمع حراكه - عادة - مرتبط بالعادات والتقاليد والأعراف ومرتبط بالخطاب الوعظي الذي يقوم على مبدأ الحلال والحرام، فإذا كنا ننتظر استجابة فهي استجابة بطيئة جدا وتلك الاستجابة محسوبة على مستوى النخب الذين لديهم القدرة على فهم الخطاب الثقافي والتفاعل معه وتبنيه في الحياة. نحن مجتمع ما يحدده الأعراف والعادات أكثر من الثقافة، ونحن مجتمع من الممكن أن يؤثر فيه الخطاب الوعظي والديني أكثر من الخطاب الثقافي والمعرفي، الخطاب الديني هو خطاب نفعي في المقام الأول، فمتى ماكان الخطاب الديني خطابا لوجه - الله - سبحانه ولا يطلب مصالح دنيوية سيتواءم مع الخطاب الثقافي، فالخطاب الديني في أصله ومنبعه يدعو إلى حسين بافقيه: كل الخطابات على اختلافها مؤثرة لكنها تنخل وتبعثر وتدرس وتفحص من خلال مواقع التواصل الاجتماعي الحرية والعدالة والمساومة واحترام الإنسان دون أن يخضعه للمساومة، ولكن إذا ما تم إخضاعه للمساومة والمصالح فهو يتحول هنا إلى خطاب استرزاقي ونفعي وهنا لا يمكن أن يلتقي مع الخطاب الثقافي، كما أن الخطاب الثقافي قد يتحول - أحيانا - إلى خطاب نرجسي وليس فيه توازن، فنحن بحاجة إلى الموضوعية في نقد الخطاب الثقافي كونه أيضا يتعالى على خطاب المواعظ أو المرشد الديني، وفي الجانب الآخر هو لا يراعي مسألة التدرج، فالخطاب الثقافي قد يكون صادما للمجتمع لذلك فإن المجتمع بدوره هنا لا يتقبل خطابه إلا بعد أن يفوق من الصدمة ويستوعبها تدريجيا. وينشغل المجتمع في الوقت الحالي بنفسه، بمعيشته، لا يود أن يشغل نفسه كثيرا ولكن من خلال المعطيات الحديثة ووسائل التواصل فمع شديد الأسف الذي يشغل الناس أشياء هامشية لا تمس نوافعهم من حيث الرقي بالحياة والبعد عن الجهل وتجاوز الإنشاءات وانتقاد السلوك والتعامل مع الآخر واحترام الذات والحفاظ على البيئة، فالمجتمع مجتمع استهلاكي ودائما لا ينتج فهو يتلقى كل مايتلقفه ولكن في الحقيقة هو لا يعي ماهو الصالح وغير الصالح وغالبا ما تحركه العاطفة والتي تدفعه للاستجابية لأي صوت ينسجم معه، ومع غرائزه دون أن يكون هناك فرد إلا ما ندر لأن الفرد قائم على الوعي ومسألة القدرات الذاتية الفردية في أن يعرف ما هو ضار وما هو نافع، وما هو عام وما هو خاص، وما هو تنوير وما هو ظلام. قضايا الملامح العامة ويقول حسين بافقيه - الناقد - بأن السؤال القائم على تفكيك المجتمع ومدى ارتباطه بالخطابات سؤال معقد وعلومي وهو سؤال صعب، فعلاقة المجتمع بالخطاب الثقافي وهل أثرت الثقافة في المجتمع؟ وهل المجتمع يعيش في دوامة أو متاهة ؟ فالمسألة بالغة التعقيد، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن المجتمع بعموميته ولكن الذي نلاحظه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بخاصة "التوتير" يشعرنا بأن المجتمع لديه قضايا مهمة وليست بالقضايا السطحية، وهي القضايا التي تؤلف في الأخير الملامح العامة لتفكير المجتمع والأسئلة الكبرى التي نتحدث عنها، سواء كانت هذه الأسئلة تتعلق بحياته اليومية في الأوضاع الاقتصادية في تنمية الوطن وهموم المواطن، أسئلة باستطاعة أي إنسان أن يلاحظها من متابعة يسيرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يجعلني أنظر إلى المجتمع بعين مختلفة فالمجتمع لم يعد ينظر إليه كما كان من قبل، فهناك تطور في المجتمع ملحوظ ونستطيع أن نعيد الجزء المهم من تطور المجتمع في المملكة أو غير الممكلة وأن نعيد ذلك التطور إلى ثروة الاتصالات الضخمة منذ انفتح الإنسان على القنوات الفضائية ثم الاتصالات المفتوحة، ثم أجهزة الجوال الذكية والآن نحن نعيش في مواقع التواصل الاجتماعي، فليس من المعقول أن تطرح الأسئلة القديمة التي كانت تطرح قبل عقود من زمان فالآن الأمور بالغة التعليق، فالمجتمع لديه درجة كبيرة برسالته إلا إذا قلنا بأننا نتحدث عن ثقافة معينة، الثقافة التقليدية التي أعدت في قوالب ما سواء كانت الثقافة الأدبية أو الثقافة الأكاديمية التي يروج لها أستاذة الجامعة أو الأدباء أو المثقفون التقليديون أو كتاب الصحف، فهذه مسألة أخرى. إن المثقفين والأكاديميين وكتاب الصحف أصبحوا جميعا يستمدون جزءا من مشروعهم في الكتابة وفي الثقافة والوعي من خلال ما يقدمه المجتمع، وما يقدمه المغردون في التوتير بدليل أن الكثير من القضايا يلمسها المغردون في مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تصبح قضية من القضايا التي تهتم بها المؤسسات الرسمية، فأي قضية في عالمنا العربي أصبحت تطرح في ذلك البرلمان المفتوح الذي له "مواقع التواصل الاجتماعي" فنحن ننظر بعين جازمة إلى ما يقدمه مجتمع الناس، العاديون الذين يفكرون على نحو مختلف والذين يطرحون أفكارا جرئيه وأفكارا مهمة ولو لم يكون لهم صلة بالمؤسسات الثقافية والصحفية التقليدية مثل الصحف الورقية وخلافها، فالآن لا نستطيع إلا أن نقول: ان المثقف التقليدي "المثقف الذي عرفناه أستاذا في الجامعة، أو كاتب في الصحيفة، أو أديبا" الآن أصبح بحاجة إلى أن يكون له صوت مسموع وهي مسألة صعبة في مواقع التواصل الاجتماعي، لأن مواقع التواصل الاجتماعي هي العينة الكبيرة والمفتوحة والحرة التي يمكن أن نقول بأنها تعبر على نحو كبير في المجتمع بخلاف الآراء الأخرى التي كنا نطرحها لأننا ننتمي إلى نمط ثقافي مختلف ولأننا كنا نتعلق بأفكار ونظريات ما أن ننزلها على المجتمع حتى يحول حولها الشك، وربما تزعزع من أركانها. ويقول "كل الخطابات على اختلافها سواء كانت خطابا ثقافيا أو خطابا دينيا أو خطابا سياسيا له تأثيره الآن ولا ننكر ذلك، فالخطاب السياسي عبر القنوات الرسمية له تأثيره ولكن جميع هذه الخطابات وتلك الأفكار تنخل وتبعثر وتدرس وتفحص من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فأي فكرة جديدة ورأي وأي مقال بإمكانه يثير الرأي العام أو أن يثير شريحة معينة من المغردين ببساطة من الممكن أن يتحول إلى هاشتاق ويصبح هذا الهاشتاق هاشتاقا كبيرا ويستمر لمدة معينة من الزمن ويعطينا ما يفكر به المغردون في هذا الوقت، فلا نستطيع أن نقول بأن الخطاب الديني أصبح على نحو السطوة التي كنا نعرفها قديما بها، لأن في القديم لم نكن نسمع إلا صوت المؤسسة الرسمية سواء كانت هذه المؤسسة سياسية أو دينية أو ثقافية ولكن الآن نحن أصبحنا نسمع إلى صوت الشارع وفي نفس اللحظة والموقف نقرأ مختلف الأفكار يمينا ويسارا ووسطا ولكنها في الأخير تعبر عن صوت المجتمع وبماذا يفكر في هذا الوقت. د. لمياء باعشن: المشكلة في غياب الوعي القادر على تشكيل الفرد ليفهم الخطابات الفكرية العالية وليست الشعبية فروقات المجتمع وتقول الدكتورة لمياء باعشن - الكاتبة والناقدة - "أنا ضد كتلات المجتمع ومن يقول بأن كل الذي في المجتمع واحد فالفروقات الموجودة في شرائح المجتمع فروقات بينة، لا نستطيع أن نقول بأن المثقفين في شريحة منفصلة عن المجتمع وربما أن الخطاب الصحوي بالذات له تأثيره الكبير على المجتمع والدليل الواضح اللعب على الأوتار في الانتماء الديني أجهض الكثير من مساحة العقل والتفكر لأن العقل والتفكر تتطلب مسؤولية فكرية تتتبعه، فهو مرهق لمن ليس لديه الملكة الواسعة والإطلاع الواسع ولكن الخطاب الديني يعلم الإتكالية، فهناك من يفكر عنك، وهناك من يعطيك دليل كيف تتحرك؟ وكيف تنام؟ وكيف ترمش؟ فهو خطاب ينمي الكسل بعكس التفكير وهي مهمة المثقف فهو يضع الشخص على طريق يجب أن يقوده بذاته أو بقدراته الخاصة. هناك مشاكل أخرى حينما نتحدث عن المجتمع وتكمن في العناصر التي تعد الشخص لأن يكون قادرا على تلقي الخطاب الفكري الثقافي العالي فهناك خطاب عال وهناك خطاب شعبي، والتهيئة تأتي هنا من مراحل أخرى، فاللوم هنا دائما موجه إلى البيت وإلى التعليم، فالخلفية الثقافية تعتمد في المقام الأول على التهيئة المنزلية والأكثر التهيئة المدرسية، فالمدرسة تتغلب على المنزل في الكثير من الأحيان فالفرد يقضي سنوات طويلة حتى يصل إلى الجامعة وإشعار الأهالي بأن كلمة الدراسة والتعلم هي شيء خاص بالمدرسة، فحتى حينما يتحدث الفرد بشكل مختلف فإن ذلك التشبع قادم من المدرسة، ومن النادر أن يكون البيت قادرا على خلق هذه الروح البحثية والتفكيرية والتعبيرية فهناك مراحل جاءت كان حتى التعبير يحفظ، فهذه مشكلة نلاحظها في التعليم مع الطلاب والطالبات الجامعيين فهناك لديهم ما يسمى بالتفكير المنفصل، فمن المستحيل البحث بدون المراجع التي تعتمد على القص واللصق، وما نسميه بالغش لأن الطلاب لم يعتادوا على البحث فنحن فقراء قبل وجود الانترنت في المكتبات وفقراء في المراجع وإطلاق الباحث للتعلم دون رقابة ودون تهذيب على معلومة مختلفة، فالمنظومة ليست مجرد مثقف وخطابا عاليا وشعبا أو جمهورا لا يريد أو غير قادر فهناك أشياء كثيرة تتدخل. إن ذلك لا ينطبق فقط على مجتمعنا بل ان هناك الكثير من المجتمعات من تدخل ضمن تلك الدائرة وتختلف لديها درجات الوعي العقلاني فعلى سبيل المثال "درست في أمريكا وكنت أرى بأن المجتمع في الجامعات والمفكرين منفصل أيضا عن المجتمع الخارجي على الرغم بأن درجة التناسب في مجتمعاتنا أعلى من الخارج ولكن يوجد هناك قولبة ويوجد شيء من التلهي وسيطرة الإعلام في الغرب أكثر بكثير من سيطرة العلم والتعلم إلا ماندر، فما يندر هنا يندر هناك وتعود المسألة إلى الشخصية والملفات الخاصة، فهناك درجة وعي حضاري في الغرب ولكن ليس بالضرورة أن تكون درجة وعي فكري فهناك فرق بين الاثنين. إن الخلاف المستأصل والقديم بين الخطاب الديني والخطاب الثقافي عائد إلى خلاف المساحة والمنافسة أكثر من كونه خلافا، فالمجتمع دائما ضحية هذا الصراع على من منا على صح؟ ومن منا على خطأ؟ وواحد منا يجب أن يفوز، فالخطاب الديني خطاب تسكيني ويمنح الهدوء ولا يطلب من الطرف الآخر أن يناقش أو يخالف أما الخطاب الثقافي على العكس تماما، يحاول أن يزرع الحرية التامة في فكر المتلقي ويأمل ويتمنى أن يثير الأسئلة ويثير الهواجس فنوعية الخطاب مختلفة. فالمادة يجب أن لا يكون فيها صراع ولكن كيفية المادة هي التي تخلق الصراع على الرغم من أن الكثير من المفكرين وجدوا تناسبا بين الخطابين ولكن الأسس التعليمية في الخطاب الثقافي تختلف تماما عن الأسس التعليمية في الخطاب الديني.