ربما التزاحم في الحياة الحديثة يحتل حيزاً أضيق من المخروط فتظل شمس الحاضر محجوبة عن البصر, ما يعيد ذكريات القصص القديمة والفرص التي تحققت للخيال الواسع وحاكتها كثوب يلبسه الطفل ليلاً ويحلم بالأعياد التي تعيشها تلك الشخوص الخيالية على مدار العام. وفي النهاية يكبر كل شيء وتنتهي مقادير الخيال وهرم النسر الطائر إلى شيء سطحي كطفح جلدي سرعان ما تزول علاماته, وبهذا المعنى يكون المفترض مفقودا والعملية الذهنية أمام تموضع الذات التي تشكل معارفها حسب معطياتها, وحسب الروايات المختلفة والأساطير ومنها أسطورة الأهرامات التي ظلت بين طلاسم السحرة وعلماء الفلك وقصص المتلاعبين بالحقائق ومجرى النيل ودرب التبانة, وبات كل شيء في الكون مرتبطاً بالخيال والعلم ومتصلا يجر بعضه بعضا. وها نحن نعود مجدداً إلى أجزاء من الرواية القديمة التي علقت في مخيلتنا من غرائب تلك الأهرامات التي سمعنا عنها قبل أن نراها ونقرأ ارتباطها بالأبراج والمشروع الفلكي المعماري الذي يحمل رسالة تحذيرية لأهل الأرض! ثم قرأنا عن المخططات التالية التي أوضحها «روبرت بوفال» وأثبت باقناع بأنّ المصريين القدماءَ كَانوا فلكيين محنّكينَ، وبأنّ معتقداتهم الدّينية وممارساتهُمْ كَانتا عميقة وأكثر بكثير باطنية مِنْ مُعتَقَدةِ. فيما شكل السابقون تداعيات وصورا تسربت إلى عقول الأبناء, أخذوها من محطات المهاجرين وقصاصات من قراطيس كتبوا عليها أخبار بلا مصادر وقوافل تمر بهم تشحذ عقولهم بقصص متنوعة حتى انتشرت الخرافات والخزعبلات سواء في أفلام هوليود الخيالية أو في الجزيرة العربية. وبهذه المسلمات القديمة نشأ جيل يحبذ الأسطورة ويبني قصورا بالخيال لولا براكين الواقع التي دمرته وغطته بالرماد حتى أصبح اللون واحداً رمادياً خالياً من الزخرفة التي تسعد الناظرين والمتفائلين. فكانت الطريقة خاطئة منذ البداية والشحنات التي ملأت العقول شحنات كهربائية زائدة في الدماغ مقابل تواضع أدوات الواقع فعانى الفرد من أفكار شائعة لا أساس لها من الصحة وحياة متقلبة تنعكس سلبا عليه وعلى عائلته. وتنسب هذه المدرسة إلى الأبوين بوصفهما قدرة خاصة على تشكيل الصور أو تمثيلات التجربة الأولى وتقوم بدور كبير في مفهوم ثقافة الطفل, ويدار الأمر عدة أعوام لصور ليس لها إطار مناسب ومتناسق, بل يحيط بها توتر وعدم انسجام مع العالم الخارجي والتبادل بين الأصل والصورة ومحاكاة داخلية لا يشارك العالم في جمالها الحقيقي وتؤدي عملاً غير مرئي. فمن ضمن المواقف الطريفة التي كتب عنها غادمير عن إقراره بالتناهي الإنساني التاريخي وأن الذات لا يمكن أن تتشكل من دون خصومة وإنكار للماضي, لاسيما وأن التاريخ والتراث يحث على التواصل والتشارك في الحياة. ومن جهة أخرى تنتهي الألفة بين الإنسان والعالم إذا تناقضت فترتين زمنيتين من حياته, جهل الآباء في حقبة وحداثة أفكارهم في حقبة زمنية أخرى والمسائل التربوية المختلفة والمعالجة بطرق جديدة تناقض التي سبقتها (وأن الشيء المألوف في عصرنا هو عدم الألفة نفسها؟ كما قال غادمير).