انتهى المقال الماضي إلى الحديث عن معوقات الانفتاح. الانفتاح هنا منظور إليه كشرط من شروط الدخول في علاقات تواصلية. كل هذا الحديث مبني على أمل أن التواصل اختيار وإرادة وليس فقط كيمياء لها علاقات بتركيبة نفسية أعمق من قدرتنا على التغيير. لدينا هنا رهان ربما يستحق المغامرة. لنفترض أن التواصل كيمياء ولكن لنفترض كذلك أن لدينا كيمياء تساعدنا على التواصل. الفكرة هنا أنه حتى لو كانت تركيبتنا الذهنية والنفسية قابلة للانفتاح فإن الظروف التي نعيش فيها قد تعيق تلك القابلية. إذن فلنعمل على توفير تلك الظروف والإمكانات ونرى بعد ذلك كيف تتم الأمور. قلنا إن للانفتاح على الآخرين عدوين أساسيين: الأول هو الانغلاق على الذات، والثاني هو العيش في عداوة مع آخرين لا نعرفهم. الانغلاق على الذات قلنا إن له على الأقل سببين: الأول الأنانية والثاني الاكتئاب. اليوم يفترض أن يكون الحديث عن العدو الثاني للانفتاح: العيش في عداوة مع آخرين لا نعرفهم. هذه مشكلة ثقافية واجتماعية تعود برأيي إلى تركيبة الهويات في المجتمع وعلاقة كل هوية بالأخرى. ما أعنيه هنا هو دخول الفرد ضمن جماعات معينة ينتمي لها: سياسية، دينية، عرقية، أيديولوجية، طائفية، مناطقية وتترتب على هذه الانتماءات مواقف خصومة مع آخرين لا يعرفهم الفرد شخصيا. هذه المعادلة صعبة وتقلّص كثيرا من فرص الفرد في التعرف على الآخرين والتواصل معهم. هناك حواجز ثقافية تتحول مع الوقت إلى حواجز نفسية تجعل من الفرد عمليا غير قادر على الانفتاح النفسي الجميل على الآخرين. يمكن ملاحظة المشهد التالي للتعرف على تأثير هذه المواقف: فرد ينتقل من بيئته التي أسست في داخله انتماءات صلبة لجماعات معينة ومواقفه معادية لجماعات أخرى. هذا الفرد يزور الآن مكانا عاما في مدينة كبيرة تختلط فيها الجنسيات والأديان والأجناس والأعراق والمذاهب. في المساحة التي تحيط بهذا الفرد عدد كبير من الأشخاص الذين يختلفون معه في أشياء كثيرة. يهمني هنا أن أتصور ولو تقريبيا موقف هذا الفرد الداخلي. قد لا يتحدث ولا يتواصل مع اللآخرين ولكن تهمني اللغة التي تتحدث في رأسه وهو في هذا المشهد. ماذا ستكون رؤيته للإنسان الأسود الذي أمامه وهو الذي تربى على احتقار السود؟ ماذا سيقول بينه وبين نفسه وهو يرى ذلك الشخص الذي يحمل شعار دين تربى على عداوته؟ ماذا سيقول في داخله وهو تلك الفتاة تتصرف بسلوك معين تربى هو على أن يصدر أحكامه السلبية بناء عليه؟ الحالة الحادة في هذا المشهد قد تؤدي بالفرد للانضمام لجماعات مسلحة تعمل على القضاء على من يخالفونها. جماعات تحلم بعالم لا يوجد فيه إلا من يشبهها. هذه حالة حادة تستقطب اليوم أعدادا متزايدة. لكن هناك حالات أقل حدة من هذا بكثير وقد يكون أفرادها لا يرغبون حقيقة في العيش ضمن عداوات بهذا الشكل ولكنهم قد تربوا وتعمّقت في داخلهم مواقف نفسية جعلت من تقبّل من يختلفون معهم أصعب مع الوقت. نلاحظ في المشهد السابق صفة مهمة وأساسية في هذا الفرد وهو أن تربى على الحكم على الآخرين ولو لم يكن يعرفهم. في داخل رأس كل فرد تربى في بيئة الهويات الحادة آلة حكم لا تتوقف. آلة لتصنيف الناس ووضعهم ضمن قوالب معدّة سلفا. عادة تكون القوالب الجميلة في هذا الرأس محدودة جدا تشبه القالب الذي يعيشه. الأحكام المسبقة هي بالتالي إحدى معوقات التواصل بين البشر. الحكم المسبق هنا يعني فكرة خطيرة وهي أنني لا أحتاج أن أتعرف عليك لأحكم عليك. الحكم الذي أصدره أنا عليك هو عملية ذاتية ليس بالضرورة أن يكون لك دور فيها. يكفي منك أن تكون ولدت في ظروف مختلفة عن الظروف التي ولدت أنا فيها. هذا هو التعريف المعاكس تماما للانفتاح. الانفتاح يعني أن أتعرف عليك من خلالك. أي أن أعطيك الفرصة على أن تقدم نفسك بنفسك. أن أسمعك بلغتك. أن أراك كما ترى نفسك. إذا أعطيتني الحق ذاته فإننا قد اتفقنا على أننا كشراكة الطريق الوحيد للتواصل والتعارف. كل انفراد بالحكم يعني خيارا للعزلة. عادة ما يتربى الأطفال في بيئات الهويات الحادة على الحكم على الآخرين. بمعنى أن يتحول كل فرد إلى قاض ولكنه قاض لا تشغله العدالة بل يشغله فرز الناس وتقسيمهم حسب المعادلة التي تربى عليها. مشكلة الحكم على من لا نعرف أو حتى مشكلة الانشغال بالحكم من الأساس هي أنها في الواقع آلية لإغلاق المنافذ التي يمكن أن نصل من خلالها إلى الآخرين ويصلوا منها إلينا. لنتخيل في المقابل أن صاحبنا السابق قد تربى على أن يحترم جميع الناس وأن يعترف لهم بحق العيش كما يشاؤون ما داموا لم يمنعوا الآخرين من ممارسة الحق ذاته. هذا الإنسان غير متحمّس لإصدار الأحكام. هو يعلم أنه لا يملك تصورات دقيقة عن الآخرين ليحكم عليهم. لذا فهو مستعد لإعطائهم الفرصة للتواصل معه. الحدود التي تحجبه عنهم أقل بكثير من الحالة الأولى. ما أود أن أقوله هنا إن المشهد الثاني سعيد والمشهد الأول شقي. لا أظنه من صالح أحد أن يعيش حياته كما في المشهد الأول. أظنها ستكون حياة محدودة وضيقة ومليئة بالطاقة السلبية والآلام الداخلية. أعتقد أن الطفل الذي يتربى على شيء قريب من المشهد الثاني أن لديه فرصة أكبر للسعادة والانطلاق في الحياة والتعرف على الناس وإسعاد الآخرين وتقليل الشر في العالم. ولكن لنتذكر فصاحبنا في المشهد الأول ليس شريرا بالضرورة ولا يستحق القطيعة. هو، ككثير منا، عاش في ظروف حادّة وربما استطاع في يوم من الأيام الخروج عليها. تربى عليها، وتعمّقت في داخله.