حمل الموروث الشعبي عن "مطوع نجد" -نتحدث عنه هنا كحالة خاصة- صورة نمطية لا تخلو من ملامسته لواقع مجتمعه، وتفهمه لمكانته الشرعية والاجتماعية بين أقرانه وأهل بلدته؛ فقد كان -وفقاً للمرويات والمنقولات الشعبية- بسيطاً متواضعاً متسامحاً مع الجميع، وعليه فقد تجد أن الناس حينذاك يلجؤون للمطوع -بعد الله- عند الملمات والصعاب؛ فهو ينصح لهم، ويرقي مريضهم، ويعلّم أبناءهم، كما أنه يفتيهم بما فتح الله له من العلم، ويوزع زكواتهم وصدقاتهم، وهو مأمون عندهم في حل مشاكلهم الاجتماعية والأسرية، بل إنه هو -في الغالب- من يعقد لهم الأنكحة، ويصلي ويخطب بهم، وهو في الصعاب وأيام الحروب والمجاعة مرجع للأمير، بل إنه بمثابة الوزير والمستشار الأمين. وتحكي لك ظروف الكرّ والفرّ والحروب التي عاشها الآباء والأجداد كم كان دور "المطوع" بارزاً في مثل هذه الظروف، وخير مثال على ذلك وقوف "مطوع نجد" في وجه الحملات الخارجية على الجزيرة العربية، ولم يكن ذلك مقصوراً على إقليم نجد، حيث بذل "مطاوعة" بقية الأقاليم الدور نفسه، بل ربما أكبر منه، ومثال ذلك أنه حين علم أجدادنا في الجزيرة العربية بغزو "نابليون بنابرت" لمصر، هب "المطوع" في معظم أقاليم بلادنا إلى العمل لصد العدوان، وكان "مطوع الحجاز" المعروف بكتب التاريخ بالشيخ "الجيلاني" واسمه "محمد المغربي الجيلاني الهاشمي" قد استطاع بمشاركة بعض أعيان مكة والمدينة آنذاك أن يشقوا عباب البحر الأحمر، ويلتقون مع قوات "نابليون" الغازية التي تكبدت خسائر فادحة وصفها مؤرخ الحملة الفرنسية آنذاك "هيرولد" بأنها أشرس المعارك التي واجهتهم منذ أن حطت أقدامهم إلى بلاد العرب. كان بسيطاً متسامحاً مع عامة الناس قبل أعيانهم ويجمعهم ولا يفرقهم.. ولم ينعزل عن ظروف زمانه ومكانه قصص "المطوع" في موروثنا الشعبي لا تقف عند مدينة أو إقليم بعينه، بل قد تجد من يسمى "مطوع بريدة" أو "مطوع السر" أو "مطوع نفي" صاحب المساجلات والمناكفات مع الشاعر المشهور "ابن سبيل"، وعليه فإن لكل واحد من هؤلاء قصص وموروثات أدبية وشعرية، بل أن منهم من له فضلاً عن هذه القصص والنوادر مخطوطات علمية ورسائل تعليمية وفقهية مشهورة. يرقي مريضهم، يعلّم أبناءهم، يفتيهم، يوزع زكواتهم، يعقد لهم الأنكحة، يصلي ويخطب بهم، حافظ أسرارهم تسامح مع الآخرين عُرف "مطوع نجد" آنذاك بأنه منفتح مع جميع أبناء المجتمع متسامحاً مع عامتهم قبل أعيانهم، وتذكر لك القصص و"السباحين" الشعبية طرائف وملح ونوادر يمازح فيها شباب ذلك الزمان؛ ففي الحي لا يجد المطوع عضاضة أن يصاحب شباب القرية في فرحهم وترحهم.. لعبهم وجدهم، بل إنه يشاركهم رحلات صيدهم ويسابقهم لملاحقة طرائدهم. ورغم فارق السن والعلم بينهم وبينه، إلاّ أنك تجده يشاركهم غسل الأواني وإعداد الطبيخ وصيد الطرائد، وفي المساء لا يخلو الحديث معهم من المزاح و"تقليب الكلام" الذي يجيده المطوع، ويتقن تقمص أدواره، لا سيما تلك الأدوار التي لا تنزل إلى سفاسف الأمور، بل قد تجد هؤلاء الشباب الفتيان يغرون "مطوعهم" على التشبب وإدراك ما فاته من أيام الشباب، فيبدأون -من باب التسلية- يزينون له الزواج على "أم صالح"، ويذكرون له ابنة الدلالة "موضي" التي عُرفت بجمالها وكمالها من بين نساء القرية، ورغم أن الحديث وجد استحسان "مطوع القرية" في نجد، إلاّ أن الأمر لديه لا يعدو سوى حديث عابر من أحاديث السمر و"فلّة الحجاج" التي تطيب له نفوس الشباب، لا سيما العزّاب منهم، غير أن مثل هذه "السوالف" لا تمر مرور الكرام على مسامع "أبو مزنة" ذلك الكهل الذي عرف بين ذويه وأبناء قريته بأنه رجلٌ مزواج لا يرده عن أمر زواجه -إن هو عزم أمره- قلّة المال، ولا كثرة العيال، خاصة وأنه رجل من أهل التجارة، وكثيراً ما يتعلّل على كثرة زواجاته بظروف تجارته التي تتطلب منه الحل والترحال، حيث وقع حديث هؤلاء الشباب على قلب "أبو مزنة" موقع الجد، فسعى إلى طلب تلك الفتاة من والدها، وقبل أن يشرع في الأمر أحب أن يستشير "مطوع القرية" الذي رغم معرفته المسبقة بعزيمة هذا الكهل المتشبب، إلا أنه من باب المحاولة أراد أن يثبط همته قليلاً فكتب له قصيدة "أبي سلمان الحويفي"، وهو يقول: ياطير شلوى خذ نصيحت صحيبك تقريب خمس ابيات جله وترتيب يا شايب الرحمن ياكثر شيبك قلبك شباب ورأسك أبيض من الشيب قام إيتبين للمزايين عيبك لو أنت طلق حجاج مابك عذاريب عيبك كبر سنك معرقل نصيبك ما يقبلنك لو نصبت الرعابيب اللي صغير سنها وش تبي بك تبغى ولد مزيون وانته تقل ذيب الله يخلي لك رضيعة نسيبك اللي ترحب بك الياجيت ترحيب طع شورها وأحفظ افلوسك بجيبك مالك بناسٍ تمنحك بالمطاليب يفرض عليك أشروط من غير طيبك ويعذبونك بالطلابات تعذيب وأليا انتهيت وسلّموا لك حبيبك وتم الفرح واستقبلوك المعازيب يومين والثالث يسرب سريبك وتقوم كرعانك تطق العراقيب عوّد على الملك القديم وقليبك عساك تقنع عقب فتل الأشانيب ينصح «شباب الخنافس» في الأسواق ويستر على بعضهم ويخرج معهم في نزهة برية ويتملك قلوبهم بأخلاقه ولأن "أبو مزنة" لم يكن يريد مثل هذا الرد من "المطوع" فقد عزم على المضي في موضوع الخطبة واستعد وتأهب لمقابلة والد الفتاة، وقد كتب يرد على "مطوع القرية" بعد أن جادت قريحته ببحر هادر من الشعر الذي قال فيه: يا شيخ أنا أول لاعتزيت أعتزيبك واليوم ابأجنب نصايحك تجنيب اللي مضى في كل عام اقتدي بك وعقب الكلام اللي حصل صابني ريب حطمتني وأنا امدحك لا حكي بك وتضحك عليّ يوم انا رحت خطيب ولو شفت ما شفنا شقيت جيبك يا شيخ صوّبني عطيب الأصاويب أصابني رمحٍ عسى ما يصيبك خج الضلوع وذوّب القلب تذويب شفت أدمي لو شفت زوله أغدي بك وخلاك تلعى في طوال المراقيب وخلاني اسمع يا المطوع نحيبك تحلج وتفتح للقريحة هناديب سرح الجوازي ما يلايم عزيبك جسمك نحيف ولك متونٍ محاديب يثيره «العيارون» بالحديث عن الزواج من «موضي» و«خديد سارة» ويبقى «حجاجه مفلولاً» رغم «تقليب الكلام» مكانة عالم لم يكن "مطوع نجد" قبل عشرات السنين بمعزل عن ظروف زمانه ومكانه كما يعتقد البعض، بل كان متواصلاً مع أقرانه العلماء في المدن والأقاليم الأخرى، بل إن بعضهم سعى في رحلات طويلة إلى طلب العلم والتزود بالعلوم والتخصصات الأخرى، كما تجد أن منهم من زاول التجارة أو الفلاحة أو ربما تفرغ للتعليم والتدريس، ومنهم من رافق الأمراء وقادة الجيوش، كما سعى الكثيرون في الإصلاح الاجتماعي وتهدئة الأوضاع بين الأقاليم المتنازعة أو القبائل المتصارعة، وللأمانة فقد كانت مساعي "مطوع نجد" في كثير من الأوقات محل إجلال وإكبار من الأمراء والأعيان والعامة بمختلف مشاربهم ومجتمعاتهم، لا سيما شيوخ ورؤساء القبائل والعشائر الذين يُنزلون "المطوع" منزلته ويثمنون له مواقفه وحرصه على إصلاح ذات البين، وعليه فقد كان "مطوع نجد" في معظم أحواله ذو اطلاع تام بأحوال مجتمعه ومحيطه الاجتماعي، وهو وإن بدا بخلقه وتسامحه بسيطاً متواضعاً، إلاّ أنه يظل من بين أقرانه عالماً متعمقاً في بحور العلم الشرعي، ويستند في معظم أحاديثه وفتاويه على قاعدة صلبة من الاستشهاد الموفق بكتاب الله وصحيح السنة المطهرة، ناهيك عن حصانته اللغوية، ومتانة وغزارة علمه ومستنداته ومراجعة، ناهيك عن جزالة علمه بقواعد اللغة العربية وأشعار العرب وأيامهم في الجاهلية والإسلام. ثورة العشق كان الاستدلال بثورة العشق والهيام يدفع بعض شعراء نجد لإقحام "المطوع" في قصائدهم وأشعارهم وعشقهم وغرامهم، بل أنهم كانوا يستدلون بجمال هذه الفتاة أو تلك ويزعمون أن من يراها لا يستطيع الصمود أمام جمالها الباهر حتى ولو كان مطوع القرية، ولذا كان "المطوع" يُقحم في قصص الغرام كمثال يعتدى به وبزهده وورعه عن ويلات الغرام ومصارع العشق والهيام.ويُذكر أنه قبل قرن من الزمان أراد الشاعر الكفيف "محمد بن فهّاد" أن يسعى لتزويج ابنة أحد أصحابه، حيث خشي والدها أن يطول بها العمر دون أن تتزوج، وكان اسمها "سارة" ولم تكن ذات جمال، وهو ما دعى هذا الشاعر أن يراهن صاحبه على تزويج ابنته، مقابل أن يعطيه والدها نخلتين من نخيله، فوافق الأب على الرهان وانطلق الشاعر يتغزل ب"ساره" وهو يقول: هيض ابن فهّاد في تالي نهاره ألف قافٍ من ضميره مدرجاتي يا وجودي وجد مكسور الجبارة ساهرن تسعين ليلة ما يباتي عقب ما هو تاجرٍ راعي عماره صار فلاحٍ أموره هيناتي كن في عينه من الفرقا شراره أو مخاليب الوحوش الكاسراتي صاحبي بالوقف مدهاله وداره ما سكن في ثرمدا والا مراتي ولعتني بالهوى والحب ساره دلّهتني عن غنادير البناتي المطوع لو يشوف خديد ساره ..... ... وعجّل بالصلاتي بعد هذه القصيدة تسابق الشبان على طلب سارة من والدها، وفعلاً تزوجت أحد أعيان البلدة وعاشت بقية عمرها معه. ولأن البيت الأخير من القصيدة جرى على غير مبتغى صاحبه وتناقل بعض شباب ذلك الزمان هذا البيت من باب الغزل والتنكيت؛ ما دعى الشاعر "أبو نواف" أن يرد على البيت الآخر موضحاً دور المطوع ومكانته العلمية والاجتماعية، قائلاً: المطوع لا صعد فوق المناره يصدح الأذان ويقيم الصلاتي ثابتن بالدين والسنه شعاره يقمع الزلات بالقول الثباتي السماحة والفضيلة والوقاره في رجال الدين جزلين الصفاتي شباب الخنافس! في إحدى أسواق الرياض القديمة قبل ما يقارب الخمسين عاماً، كان ثمة مجموعة من الشباب العاطل ممن يسمون حينها ب"الخنافس" -كنية عن إطالتهم لشعورهم وتسكعهم بالأسواق والممرات- استغلوا عدم تواجد مطاوعة السوق "العسى" الذين يحفظون أمن السوق ويرصدون عمليات الغش والتدليس، ويطاردون بل ويعاقبون الشباب المستهتر، وفي إحدى الأيام استغل مجموعة من هؤلاء الشباب غياب "العسى" فقام أحدهم يلاحق ويضايق الفتيات وهو يردد "المطوع لو يشوف خديد ساره"، وقد شهد هذا المنظر إحدى النساء الفاضلات والتي نزلت حديثاً إلى مدينة الرياض وهي الشاعرة الورعة "وضحى بنت عواد الحويفي الحربي" التي قالت على الفور قصيدتها المشهورة: يا شباب اليوم ما فيكم مذله مغرمين ومترفين بالحياتي يا خسارة كيف تقرون المجلة والمصاحف عند ربي مكرماتي يا شباب انصحك درب الشين خله واتبع درب التطوع والصلاتي يا ردي العقل يا ثورٍ مزلّه ليش تاقف في طريق المحصناتِ ثعلب (ن) تمشي ودربك ما تدله خايب (ن) قصد وتبغى الخايباتي مطلقين وفودكم في كل حله جعلكم تمحون وترتاح البناتي كيف نرجي شعبنا يرتاح ظله والخنافس والجعوله كاثراتي والملك هذا مهوب جايزن له وعاش حكم (ن) كالجبال الراسياتي جعل أبو تركي يدير الحكم كله وبارك الله بالعيون الساهراتي مطوع اليوم في عصرنا الحالي تعددت مهام المطوع وتضاعفت مسؤولياته، وأصبح لزاماً عليه أن يواكب أمور الدعوة والفتيا وإرشاد الناس عبر قنوات الإعلام وتقنيات الاتصال والتواصل السريع، وعليه بدأ الخطاب الدعوي الذي يصل إلى ملايين البشر في وقت واحد أكثر احترازاً وحيطة منه عما كان في زمن "مطوع نجد"، وذلك لاختلاف الثقافات والمذاهب والاجتهادات الفقهية، كما أصبح مصطلح "المطوع" في هذه الأيام شبه مقصور على إماما وخطيب المسجد أو الجامع، حيث أدرك الناس مع توسع المجتمعات الفوارق العلمية بين المطوع والداعية والمصلح الاجتماعي والقاضي والفقيه والمفتي، كما بدت أقسام الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة بتأهيل طلابها بحسب علومهم وتخصصاتهم، على الرغم من كون كثير من العلماء في هذا الزمان بمقدوره أن يدعو الناس ويتصدى لمجال الفتيا، كما أن علمه يؤهله لأن يؤم المصلين في الجامع وربما يستطيع بما حباه الله من بحر العلوم أن يقضي بين الناس بما يبرأ به عند الله سبحانه، وهو ما كان عليه "مطوع نجد" قبل عقود من الزمن، حيث لا يقف علم المطوع -في الغالب- على تخصص بعينه، لا سيما وهو في كثير من الحالات حافظ للقرآن الكريم وعارف بالسنة المطهرة، وله باع طويل في شؤون وعلوم القضاء والمواريث، كما أن له من خلال علمه وفصاحته شأنٌ لا يبز في الدعوة والتذكير والخطابة، وهو ما يخشى مجتمعنا الآن أن يفقده في المطوع، وتحديداً مع انفتاح الفضاء الإعلامي وتفشي ظاهرة الفتيا عبر الشريط الإعلاني في الشاشة الفضائية، ومواقع التوصل الاجتماعي "تويتر، الفيس بوك"، والرسائل النصية، ناهيك عن تفسير الأحلام، والرقية الشرعية "عن بُعد"، إلى جانب المواقع الالكترونية المتخصصة، ومراكز الإرشاد والإصلاح الاجتماعي، وغيرها من التطورات التي لحقت بأداء "مطوع نجد" حالياً.