في مدينة ضباء تلك التي تنام وادعة على ضفاف الساحل الشمالي الغربي على البحر الأحمر، تشكلت أدوات كاتب يعشق القصة القصيرة ويمضي إلى عوالم الفن بعيدا عن الضجيج والأجواء الأخرى.. هناك تشكلت ملامحه وانسابت من بين أصابعه أول قصة قصيرة في العام 1403هـ، إنه القاص علي عبدالفتاح سعيد ــ يرحمه الله ــ أحد أبناء منطقة تبوك، والذي لم يمهله القدر كثيرا حتى رحل وهو شاب في مقتبل العمر، ليترك خلفه مجموعة قصصية عنوانها (الولوج من ثقب إبرة)، حيث كان يعيش تفاصيل الحلم ــ آنذاك.. وفي أكثر من قصة للسعيد نعثر على حالات من التأمل في الوجود والحياة وفي الموت وفي الأشياء كل الأشياء وفي أكثر من قصة له، لكنها تتجسد في قصة (الصوت والصورة والانعدام)، ولم يكن القاص السعيد يقدم إنتاجا غزيرا، لكنه كان يكتب ــ ربما يكتب ــ قصة في العام الواحد، وربما كتب أكثر أيضا، لكن مجموعته القصصية احتوت على عشر قصص تتكئ على عناصر فنية مفعمة بالتلقائية، ومن بين تلك القصص عثرت على قصة مختلفة عن سياق قصصه إلى حد كبير، وهي القصة التي أشرت إليها بعنوان: (الصوت والصورة والانعدام)، حيث جاءت في رثاء صديق له باغته الموت، كان رثاء مبللا بالأسئلة وبالدموع، فلم يرسم القاص مسارا لشكل كتابة تلك القصة، بل أن حدث الموت بفجائعيته فرض عليه شكلا للكتابة، ويمضي الكاتب إلى مشهد دفن صديقه وهو يوارى تحت التراب، وحيث نسيج القصة مزيج من الحزن وحالة من اختلاط المشاعر، حيث يتيه الحزن وسط رمل أسئلة الوجود والصديق يوارى جسد صديقه الحبيب هناك إلى عالم جديد وحياة أخرى، يقول: (اجتمع الأصحاب كنت معهم لتقديم ذاك الكرم، كان غريبا غريبا. خفيت بالتحرك حول اللحد كالنحلة، كان كرما غريبا. واصل الطوب والحجارة الصغيرة، وأحثو التراب.. وأدلي برأيي، تخيلت ما سيحدث وسط المقبرة بعدما كل شخص يذهب إلى شأنه.. ويقول: منذ تلك الليلة أدركت، أبعادا أخرى للإنسان ذي الصوت والصورة المهددين بالانعدام بكلمة صغيرة، كان الغريق بالنسبة لنا لا نعرفه، ولكن حسن نعرفه معرفة جيدة..)، وهو في هذه القصة يقف في دهشة وحزن من جهة، وفي أسئلة عريضة يزرعها ــ من جهة أخرى ــ حول صورة الإنسان وصوته وطغيان حضورهما في مشهد الحياة، ومن ثم يأتي التلاشي لتلك الصورة وينعدم الصوت وينطفئ تماما في لحظات ويصمت إلى الأبد، وهي سنة من سنن الحياة الدنيا. ولم يحبس القاص السعيد نفسه في إطار معين، مثلما يقول الدكتور محمود الحسيني عنه: «بل انفتح على كثير من الاتجاهات الفنية مسبوقا بتلقائيته الخاصة، فمرة يكتب في الواقعية التحليلية، ومرة في الواقعية الفكرية، وأحيانا يقترب من تيار الوعي، وتارة يختار الرمزية، وفي أحيان يحوم حول الرومانسية». رحم الله القاص علي عبدالفتاح سعيد، ولعل نادي تبوك الأدبي يعيد طبع مجموعته القصصية السابقة من جديد، مع إضافة قصص قصيرة أخرى للراحل لم تنشر هي بحوزة صديقه الزميل محمد القصير، وآمل منه المبادرة لتقديمها للنادي الأدبي، فهو مبدع يستحق الاحتفاء. ورقة أخيرة: رياح الحياة تعلمنا مهارة المحو؛ المحو كتابة. aokeme@okaz.com.sa