"كتبت عن السلام فاندلعت الحروب عن النظام فعمّت الفوضى عن البطولة فتفشّت الخيانة عن الأمل فزادت عمليات الانتحار عن زيادة الإنتاج فانخفضت معدلات النمو عن تنظيم الأسرة فغصّت الشوارع بالجانحين والمنحرفين عن الحب فزادت عملية الطلاق والإجهاض عن البيئة فدفنت النفايات النووية بين المنازل عن الصمود فغصّت السفارات بطالبي اللجوء السياسي" * *محمد الماغوط العالم لم يتغير يا خديجة،لازلنا نموت بسبب أتفه الأمراض،بسبب الملاريا ،بسبب نقص حقن البنسلين لازلنا نموت ، نتخاصم لأبسط الأسباب،ولا زلنا نزعم بأننا نملك قدرة على الضحك لتمر الأيام الفجة دون أن نتفاجأ بأننا منذ سنين لم نبتسم حتى بشكلٍ مصطنع،العالم لم يتغير يا خديجة،لازال الأغنياء بترفهم الظاهر يهدمون أحلام الفقراء ويورثون في قلوبهم مدارات من الكآبة، كبار السن يشيخون يا خديجة ويموتون على فراشهم دون أن تمر أصابع الأطباء على شعر رأسهم الأبيض ووجوههم البيضاء في عالمٍ عدد ما يصدره من أمنيات أكبر من عدد البشر أنفسهم!، العالم لم يتغير لازالت قار أفريقيا يموت نصفها سنوياً بسبب الجوع بينما لو وزعت ثروة رجلين فقط من أثرياء هذا الكون لرأيتهم أحياء سعداء ومتزوجون أيضاً كما يفعل أغلب البشر ومنجبين لهم كائنات صغيرة وبريئة ،العالم لم يتغير صدقيني أرجوكِ ، لا زالت الثياب غالية لدرجة أن الاحتمال الوحيد المتبقي لك هو أن تبقى عارياً،لازال الحذاء مكلفاً لدرجة أنه من الأفضل أن تسير حافياً،لم يعد هناك غاندي ليلقي ملابسه من النافذة للفقراء ويبقى عارياً في غرفته لأيام ليس لشيء، فقط من أجل الحفاة والمخذولين من الحياة،لم يعد هناك بوذا ليخبرنا كم أن الإنسان مقدس ويستحق الحياة كما يشتهي، بل لم يعد هناك هتلر وستالين ليقتلانا جميعاً ويريحانا من عبث هذا الوجود ،من هشاشة الواقع واضطراباته،يا خديجة أنا لستُ بحاجة إلى مضاد للاكتئاب أنا بحاجة إلى أن أخبرك فقط بأن العالم لم يتغير،لازال هناك من يبكي ليس ترفاً وإنما لأن البكاء هو الشيء المتاح بالمجان خصوصاً لنا نحنُ معشر العرب،لازال هناك من يريد أن يتحكم حتى في طريقة أكلك وشربك وهل تنام على ظهرك أم بطنك وهل تقضي حاجتك وقوفاً أم جلوساً، لقد أصبح المجرمون هم القضاة ، أصبح الشرفاء هم المجرمين، ونحن في المنتصف مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا زال هناك يا خديجة من يتوقع بأن غداً ليس جميلاً كما يظن المتفائلون وتلاميذ فرويد الذين لم يعرفوا التشرد يوماً ولم يصب أحد أولادهم بسوء التغذية لأنهم يجيدون وبمهارة كيف يسلبون الأموال من مآسينا بشرعية الشفاء والحياة الطبيعية والسلوك الإنساني السوي ،لقد جربت كثيراً انتظار اليوم القادم،كطعنة خنجر ياخديجة كان ذلك اليوم ولم يكن قصيدة غرام، ولن يصبح وديعاً وطيباً لا بعد قليل ولا بعد عام ولا بعد عامين ولا بعد جيل، لازال هناك من يكرهك دونما سبب، هناك من لا يستطيع أن يحبك رغم أنه يملك مئة سبب،أنا حزين، والله حزين ،جداً حزين يا خديجة،بالتأكيد لا تعرفين لماذا؟،دعيني أخبرك يا خديجة العالم العربي يستهلك ثلاثة مليار كوب من القهوة يومياً ولا يريد أن يصحو وينظر كم من الجرائم ارتكب، يمارس الحرب باسم السلام تماماً كالفتاة حين تمارس الجنس باسم العذرية،تماماً كبعض الدول التي تقتلك لأنك فقط ذو بشرة غامقة اللون أو تنتمي إلى لغة سامية عليها أن تنقرض،الإنسان حالة من الالتباس يا خديجة،كل الدنيا أصبحت شيئا لا علاقة له بالعطاء،نحب شيئاً لا يلتفت نحونا،نرتمي أحياناً في أحضان من يسفك دمنا وأموالنا،ننتحر بسبب قيم خذلتنا، نشعل النيران فينا وفي مدننا الجميلة ونكره نيرون لأنه أحرق روما، ننادي من القمة بأن الأخلاق هي خلاصنا الوحيد ونحنُ أول من ينهب كنوزها ويسلب خزائنها ويستغل تأثيرها،العالم لم يتغير يا خديجة الجميع يعرف ذلك جيداً لكنه وللأسف لا يكذب سوى على نفسه،لا يكذب سوى على نفسه وعلينا أحياناً،أنا مهزوم،العالم مهزوم،وكل شيء مبكٍ ،يا خديجة حين سألوا مخترع القنبلة الذرية عن شعوره بعد اكتشافه قال: لقد استفرغت أكثر مما تناولته في ذلك اليوم،حين سألوا سارتر لماذا يبكي الطفل حين يخرج من بين فخذي أمه قال: لأنه يرى العالم وحشاً، حين أراد تلاميذ المفكر الشهير "لودفيغ" أن يعرفوا حركة الإنسان في التاريخ أجابهم وبكل اختصار:"يولدون.....يتألمون....يموتون" لنفس السبب يا خديجة أتألم ولا أستطيع أن اقرأ كلمات هذا العالم بسعادة،لا أستطيع أن أربي الأمل وأصنع منهُ عائلة وقبيلة كما يفعل البعض،استطيع أن أصرخ فقط يا خديجة،فقط أصرخ دون حتى أن استمع لنفسي.