ككل فروع المعرفة تعكس الترجمة حركة التفاعل بين الثقافة أو الثقافات من ناحية وأحداث التاريخ من ناحية أخرى، وبوصفها نشاطاً بينياً، أي نشاطاً يتوسط ما بين فروع العلم والمعرفة كافة، إلى جانب وضعها الأساسي الذي يوسطها بين اللغات، أي يجعلها نشاطاً مابين لغوي. وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى الترجمة من حيث هي مؤشر حساس وواضح لمتغيرات الثقافة وحركة التاريخ وما يتفاعل مع هذه ويؤثر فيها كحركة السياسة والاقتصاد وغيرهما. ذلك ما سعيت إلى إيضاحه في هذه السلسلة التي أختتمها بهذه المقالة الثانية حول الترجمة في الصين. لقد كان طبيعياً، كما يشير الباحث لِن كينان في دراسته للترجمة بوصفها عامل تغيير اجتماعي في الصين (ضمن كتاب "الترجمة والقوة" الذي بدأ عرضه قبل أسابيع)، أن تعكس الترجمة ما حدث في الصين بعد الثورة الشيوعية عام 1949، فقد نشط المترجمون في العمل إبان خمسينات القرن الماضي، لكن نشاطهم كان موجهاً سياسياً وأيديولوجياً، كما هو متوقع في بلد استحكم فيه الفكر الماركسي وانتمى بقوة وحدة للمعسكر الاشتراكي الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتي على مدى عدة عقود. اتجهت الترجمة في ظل ذلك التوجه الصارم نحو ما ينتجه الاتحاد السوفيتي بشكل خاص في مختلف المجالات، وساعد على ذلك تعميم دراسة اللغة الروسية في المدارس الصينية. في قائمة للأعمال الأدبية المترجمة إلى الصينية ما بين عامي 1949-1979 نشرت في ثمانينات القرن الماضي تحتل الأعمال المترجمة عن الروسية 77 صفحة، أي ضعف المساحة التي تضم الأعمال المترجمة لكتاب إنجليز وأمريكيين، فقد كان نصيب الإنجليز 43 صفحة والأمريكيين 18. وفي قائمة ثانية أطول من سابقتها، فقد بلغ مجموع صفحاتها 1412 صفحة، تحتل الأعمال الروسية المنشورة بعد 1917، وهي أعمال سوفيتية بطبيعة الحال، 668 صفحة، في حين تحتل الأعمال الأدبية الأمريكية 57 والإنجليزية 70. وواضح هنا حجم ودرجة الأدلجة المتحكمة في عملية الترجمة في بلد توجهه أيديولوجيا معينة باتجاه أهداف معينة. فالصين التي حكمها ماو تزي دونغ (المشهور بماو تسي تونغ) هي صين موجهة ثقافياً وحسب مقتضيات ما سماه زعيم الصين آنذاك الثورة الثقافية. ولم يقتصر التوجيه على نوع النصوص المترجمة وإنما تعداه إلى هوية المترجمين، فلا كل نص كان يمكن ترجمته ولا كل مترجم كان يسمح له بالعمل. للترجمة سطوتها الأيديولوجية الفاقعة التي سمحت بالتدخل حتى في النصوص نفسها اختياراً وتحريفاً بمقتضى رؤية الحزب وسياساته. لكن ذلك كان مقدراً له أن ينتهي بانتهاء عصر الهيمنة الشيوعية اقتصادياً على الأقل ودخول الصين في مرحلة انفتاح لولاها ما خرج المارد الصيني الحالي. في الفترة الحالية، فترة الانفتاح، تعيش الصين موجة ترجمة خامسة هي الأضخم في تاريخها، بل إنها حسب الباحث الصيني تعادل الموجات الأربع السابقة مجتمعة. بتعبير لِن كينان تعد هذه الموجة الخامسة "الأكثر شمولية والأقل قيوداً"، فهي تشمل كل مناحي النشاط الاقتصادي والفكري والاجتماعي والأدبي وغيره. المهم هنا ليس الحجم وإنما درجة الرقابة، فهي المرحلة "الأقل قيوداً" قياساً إلى سابقاتها، لأنها تعكس رغبة الحكومة الصينية في فتح البلاد على التحضر الغربي على كافة المستويات، تأسياً باليابان التي سبقت إلى الاهتمام الكبير بالترجمة وإلى التحضر والازدهار. ومع أن بعض القيود السياسية والأيديولوجية تبقى مؤثرة، فإنه لم يكن من المتخيل في فترة سابقة أن يترجم كتاب مثل كتاب "آكلو العناكب" للصينية ري يانغ Rae Yang الذي كشفت فيه عن "أكاذيب" ثورة ماو الثقافية وما أدت إليه من كوارث إنسانية عبر عملية التطهير البشري لأولئك البورجوازيين الذين ملأوا المجتمع الصيني (كتاب يانغ عبارة عن مذكرات شخصية لفترة مشاركتها في شبابها في الثورة والثقافية. وقد نشرت المذكرات في الولايات المتحدة وبريطانيا أثناء عمل يانغ أستاذة للأدب الصيني في ولاية بنسلفانيا). كما أن من مؤشرات الانفتاح الترجمي في هذه الفترة نقل أعمال أدبية كانت تعد بورجوازية ومتفسخة بينما هي تعد أعمالاً أدبية عظيمة خارج الصين الشيوعية، مثل رواية "يوليسيس" (أو عوليس) لجيمس جويس و"البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، العملان اللذان قلبا موازين الكتابة الروائية في القرن العشرين. وقد احتفت أيرلندا بترجمة رواية جويس، كما يقول الباحث الصيني، حتى إن رئيس جمهوريتها أرسل رسالة شكر لأحد مترجمي الرواية ووضعت نسخة من الترجمة في مركز جيمس جويس في دبلن. ونجد مؤشراً من نوع مختلف تماماً على ما حدث من انفتاح في ترجمة الصين للسيرة الذاتية لرئيس شركة كرايزلر الأمريكية السابق ليا إياكاوكا، واللافت أن الكتاب ترجم ثلاث مرات في سنة واحدة. فالاهتمام بعمل كهذا يقع في صلب الاهتمام الصيني بتطوير التجارة والصناعة ويوضح طبيعة الانفتاح الذي تعيشه الصين، فهو ينشد للشركات الصينية نجاحاً اقتصادياً من النوع الذي حققه رئيس كرايزلر لشركته المنهارة في ثمانينات القرن الماضي. ومع ذلك فإن الترجمة لم تقف عند حدود ذلك الاهتمام الاقتصادي أو التجاري وإنما تعدته إلى مختلف فروع المعرفة، فالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية تضع قوائم بالأعمال التي تحتاج إلى ترجمة وتكلف من يقوم بذلك. وفي الوقت نفسه هناك العديد من المترجمين الذين يعملون منفردين ويجدون دور النشر والمجلات التي تبحث عن أعمالهم. أما نتيجة ذلك فهي، كما يقول الباحث لِن كينان، أن "الباحثين والقراء الصينيين على حد سواء يجدون الآن ما يصلهم مباشرة بما يجري في الغرب في حقول العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والتقنية". من هذا كله يتضح الدور الكبير الذي لعبته وتلعبه الترجمة في تطور الصين، وإن كان الانفتاح هو السمة التي تعتلي المشهد الحالي لذلك التطور الهائل، فإن من المهم ألا ننسى أن الصين تظل تدار بعقلية حزب واحد يوجه النشاط على كل المستويات لأهداف محددة، أي يمارس تسييس النشاط. فالتخلي عن التشدد الأيديولوجي أفضى إلى انفتاح حضاري كبير قادته الترجمة أو شكلت قناته الرئيسة، لكنه لم يعن فتح الباب على مصراعيه في الأمور السياسية، فالرقيب الصيني مايزال يقظاً. قد يترجم إياكوكا أو جويس لكن من الصعب تصور أن تترجم كتب ونصوص أخرى تدعو إلى الاعتراض على أفكار الحزب أو الخروج عليه.