السعودية جزء من هذا العالم الذي لا تستطيع الانفصام عنه، كونها لا ترضى بمقعد المتفرج والعالم من حولها يتغير، وهي تنطلق من مسؤولية دينية تعرف أبعادها وحجمها، وبالتالي فهي تسعى لحماية الدين من التشويه وتعزيز أمن الإقليم واستقراره هذا تساؤل طرحه البعض كثيراً في الآونة الأخيرة وسيتكرر طرحه في القادم من الأيام، فانضمام دول عربية وفي مقدمتها السعودية للتحالف الدولي لضرب داعش أثار علامات استفهام لدى البعض رغم ان الصورة واضحة المعالم لكن هناك من يريد تشويهها لغرض في نفس يعقوب. على أي حال، ملامح المنطقة من الناحية الجيوسياسية تتعرض اليوم لموجة من الطموحات الإقليمية، ناهيك عن حالة الارتباك في ترتيبات الأمن الإقليمي، ولذا جاء التحالف كخطوة تاريخية وبامتياز كونها ترسخ مفهوماً عالمياً سبق أن تجسد في حرب الخليج عندما تحالف العالم ضد قوات صدام حسين وأخرجها من الكويت. والحقيقة ان تعزيز هذا المفهوم أصبح ضرورة وليس ترفاً لأنه يهدف لمحاربة أعداء الإنسانية والظلاميين ويرسل لهم رسائل واضحة لا لبس فيها ان العالم لن يتسامح مع المجرمين والقتلة وانه يرفض ربط تلك الأفعال بالأديان، لأن سمو الدين، وأي دين، لا ينحدر لتلك السلوكيات الهمجية البربرية ولا يقبل قتل الأبرياء. هذا المفهوم العالمي كما أراه يقف مع الحق في الحياة، ومع كرامة الإنسان، ويسعى لحماية كوكبنا من الطفيليات العفنة التي شوهت قيمة الإنسان وفضحت بجلاء إلى أي مدى قد تصل قسوته وبشاعته وشره وجرمه. صحيح انه لم يكن معتاداً أن تقدم دول عربية على هكذا خطوة لاسيما المشاركة بعمل عسكري. ولكنها ببساطة هي لغة العصر والقراءة العميقة لما يحدث في المنطقة إن أردنا الموضوعية. من المعيب أن يقترب منك العدو ولا تبادر للانقضاض عليه رغم يقينك بمخططه، وتظل ساكناً بانتظار من يسعفك. هذا نهج أكل الدهر عليه وشرب. إن التعاطي مع المتغيرات والتنبؤ بالتداعيات واتخاذ قرارات مهما كانت صعبة في عين الآخرين هو ما يفترض أن يكون، خاصة وأن لديك المقومات للقيام بذلك، وبالتالي هنا يتمثل دور صانع القرار وهنا أيضاً تكمن قوة القرار السياسي لاسيما في توقيته ومغزاه والرسالة المراد إيصالها. إن من تابع توجّه السياسة السعودية ومواقفها الأخيرة يلمس اتخاذها لقرارات هامة ومفصلية تصب في نهاية المطاف لحماية ثوابتها ومصالحها العليا. ولكونها هي قلب الإسلام ومهد العروبة بما تملكه من إرث تاريخي، فإنها تعلم علم اليقين بحجم مسؤوليتها وثقلها ما يعني مواجهة المخاطر باتخاذ قرارات صعبة وإن لم ترق للبعض وقد يغضب منها البعض كما أشار ولي العهد الأمير سلمان في كلمته، إلا انها في صميم قناعاتها راضية الضمير كونها تقف مع الحق. إن مشاركة السعودية في هذا التحالف له أولويات، فهو أولاً يعكس اهتمام الرياض بحماية الدين الإسلامي من التشويه، وانها تقدم نفسها كممثلة للإسلام الوسطي المعتدل الذي ينبذ ويرفض كل ما تقوم به هذه الجماعات الراديكالية. أضف إلى ذلك تأكيدها بتعزيز الأمن والاستقرار في الإقليم، وأنها لن تسمح بالفوضى والتدخل في شؤونها الداخلية. ولذا فهي على أهبة الاستعداد، وتتابع بحذر كل ما يحدث حولها، وهي تضع كل الاحتمالات والسيناريوهات وسوف تتعامل معها بحزم وصرامة أياً كانت درجة خطورتها. كما تكشف لنا هذه المشاركة السعودية أيضاً أن سياسة الهدوء والحكمة والحلم لا تعني بأي حال من الأحوال ضعفاً، أو خشية من المواجهة، أو تفريطاً في السيادة، بل من الواضح ان لديها أنياب تُكشّرها وقت الحاجة وهذا ما حدث فعلاً. لم تعد هنالك شكوك في أن ثمة تآمراً وتدخلاً في شأننا الداخلي، فالتراب الوطني مهدد من عدة جهات عبر اختراق تركيبته المجتمعية وإثارة الفتنة فيه، بدليل ما نسمعه من استخدام مفردات الطائفية، والتجزئة والتصنيف ودعوات التخوين، والإقصاء والاستبعاد، وتعليق المشانق بالباطل والتشفي والانتقام، ما يعني ضرورة مواجهة هذه التهديدات بتعزيز وتفعيل مبدأ المواطنة. غير أن المسألة هنا لا تتعلق بالمخاطر الراهنة القادمة من الحدود الجنوبية أو ممارسات داعش فحسب بل هي أكبر من ذلك بكثير لأنها مرتبطة بمنظومة مخططات ممنهجة تم الترتيب لها كما يبدو مبكراً، ما يعكس حقيقة حجم المخاطر التي تواجهها السعودية دولة وشعباً. كما أن إشارة ولي العهد بوجود تقصير في مواجهة فكر التطرف موقف لافت وخطوة هامة يمكن البناء عليها لمواجهة كل الأطراف الداعمة والمؤيدة لهذا الفكر. ولذلك عندما يعترف بقوله "يؤرقنا اليوم أننا كمسلمين لم نفعل ما يكفي لحماية أمتنا من التطرف، وشبابها من التشدد والغلو، ما قاد بعض المغرر بهم لانتهاج العنف واستبدال العقيدة السمحة بعقيدة التكفير والإرهاب والتفجير". فان هذا يعني ان الكرة الآن في ملعب الأجهزة المعنية لوضع استراتيجية وطنية واقعية لمكافحة الغلو والتطرف والتشدد. باختصار السعودية لا تجامل في مسألتين: سمعة دينها وحماية أرضها، ولذلك اتخذت قراراً تاريخياً في المشاركة في التحالف الدولي ضد الإرهاب والذي كانت قد طالبت به منذ زمن ليس بالقريب. وليس سراً في أن الإسلام يتعرض لهجمة شرسة غير مسبوقة مما يضاعف المسؤولية على المملكة في تعزيز صورة الإسلام المعتدل. وكان محقاً الأمير سلمان عندما أشار إلى أن مهمة الجميع الآن هو التكاتف " لتوصيل الصورة الحقيقية للإسلام التي شوهتها قوى الظلام، وعرض ديننا العظيم بخلقه وعلمه وعمله في مواجهة الأفكار الضالة والتفسيرات المنحرفة". صفوة القول: السعودية جزء من هذا العالم الذي لا تستطيع الانفصام عنه، كونها لا ترضى بمقعد المتفرج والعالم من حولها يتغير، وهي تنطلق من مسؤولية دينية تعرف أبعادها وحجمها، وبالتالي فهي تسعى لحماية الدين من التشويه وتعزيز أمن الإقليم واستقراره.