ما كان الناس وإلى عهد قريب يعرفون مصطلحات الحروب التي تتردد في أجهزة الإعلام، وإن سمعوها لا يفقهون معناها وأبعادها المعلنة فضلً عن الخفية! اليوم الناس يقرأون.. ويسمعون.. ويتداولون ما تبثه قنوات الاتصال والانفصال، وما تطبخه (النوايا) في (مفاعلات) صناعة الشر والبغي باكتفاء ذاتي! اليوم يرى الناس - وعلى الهواء مباشرة - ما يفعله الإنسان بأبيه واخيه وحميه. انتشر الخبراء الإستراتيجيون وتكاثروا.. فأنت لا تكاد تفتح قناة إخبارية إلا وتتعالى أصواتهم في جدل لا يكاد ينتهي إلا ليبدأ من جديد.. لغط وصخب أشبه بحراج حلقة الخضار و(البنقلة)، أو حتى حراج (الخردة) وسقط المتاع.. في زمن أصبحت فيه إنسانية الإنسان أرخص من سقط المتاع! هذا معك.. وذاك عليك.. وثالث معك وعليك، يضع قدما هنا وأخرى هناك.. يقبض منك بيمينه ومن غيرك بشماله، فلا تكاد ترى يمينه ما تقبض شماله! إنهم يسترزقون من متاعب الناس وآلامهم.. يرصفون على جباه الأبرياء ويملؤون رؤوسهم بكلمات ليست كالكلمات التي يقصدها الشعراء، بل ما يرددها المسوقون للفتن وتعرضها وتروج لها وسائل إعلام مريضة بالعدوان توقظ فتنًا نائمة.. وكلها تقدم حزمة مشكلات وحلول، تصنعها في مختبرات (إدارة وتوزيع الأزمات)! صحيح أن هذا ليس زمن البراءة؛ لكننا نسرف كثيرًا في الترويج لنظرية (المؤامرة)، بل وتأليفها وتلحينها في كثير من الاحيان، وليس أدل على ذلك من (أسد) على شعبه وأمته، ونعامة على أعدائها.. إنها عوامل وراثة (سفك الدماء) التي تحولت إلى ماء.. وما أظلم من شابه أباه في (حمص وحماه)!