لجنة الخمسين تمثّل مصر، لا تمثّل إلا نفسها، تمثّل التيارات الليبرالية وتقصي الدينية، تمثّل الانقلابيين، تمثّل العلمانيين، تمثّل كل التيارات، تمثّل تياراً واحداً، تمثّل الحقيقة، تمثّل فيلماً هابطاً. هبوط شعبية الدستور على مستوى رجل الشارع المصري، وتقلّص تطرق صولات الليل الحوارية وجولات النهار الكلامية إلى أدنى مستوى لها منذ اعتنق المصريون أحاديث الدستور، يعود إلى انشغال عموم المصريين بقضايا تتعلق بمصر التي «تكون» بمحاربة الإرهاب ودحض الإخوان، أو مصر التي «لا تكون» بإطلاق أيادي الجماعة وحلفائها في الداخل والخارج. لكن خارج إطار القاعدة الشعبية العريضة، التي أرجأت مطالباتها الأولية بالعيش والبديهية بالحرية والمثالية بالعدالة الاجتماعية لحين إشعار آخر، وذلك بعدما أيقن المصريون بفطرتهم أن المسألة لم تعد شعباً يواجه فساداً ويصارع طغياناً، بل تحولت إلى صراع مفتوح تعمل على تفريق الشعب وتفتيت الدولة. إلا أن هناك من نخب مصر ما احتفظ بالاهتمام بجدلية كتابة الدستور، وداوم على السؤال عن ماهية اللجنة، وأصر على انتقاد من فيها وما يمثلونه وما سينتهون إليه قبل أن يبدأوا. بدأت نخب مصر في استثمار ساعات الحظر الليلية وما تيسر من ساعات العمل النهارية في بدء جولة جديدة من جولات الجدل العقيم والصراع العتيد والتشكيك الرهيب في لجنة كتابة الدستور. استثناء القاعدة المعترضة على لجنة الخمسين تشكيلاً وموضعاً ينقسم قسمين: الأول راض بها من باب وضع أولوية الوفاق الوطني ومنع المزيد من شق الصف لحين زوال «غمّة الإخوان» وإعادة تأمين البلاد من شرور الخارج والداخل، والثاني يرى فيمن تم اختيارهم خيرة رجال مصر (وقلة من نسائها) إما لأنه يقارن بين هذه اللجنة واللجنة التأسيسية لكتابة الدستور إبان حكم الجماعة فيحمد الله ويشكر فضله كثيراً غر عابئ بهويات وانتماءات الأعضاء الحاليين معتنقاً مبدأ «ليس في الإمكان أسوأ مما كان»، أو لأنه يؤمن عن حق بأن اللجنة «عال العال»! لكن ما تبقى من نخب مصر المنغمسة تماماً هذه الأيام في جدل محتدم حول اللجنة ومحتوى المواد ومقترحات التعديل تصب جام غضبها وتركز كل حقنها على عدم تمثيلها في اللجنة سواء كأفراد، أو هيئات. فتيارات الإسلام السياسي التي ما زالت تحتفظ بشعرة معاوية مع النظام القائم تشكو بأن اللجنة خالية من تياراته. كما أن ليبراليين لم يقع الاختيار عليهم يعتبرون أن تشكيل اللجنة لا يعبّر عن كل التيارات الليبرالية كما ينبغي، بل يتهمون عدداً من الشخصيات المختارة والمحسوبة على التيار الليبرالي بأنها تميل إلى الاشتراكية أكثر من ميلها لليبرالية. وهناك صرخات أخرى تطلقها النخب المعنية بمحاربة كل ما يمتّ بصلة قريبة أو بعيدة لنظام مبارك وترى في وجود شخصيات ارتبطت أسماؤها بنظام ما قبل ثورة يناير ردة شريرة وتمريرة خبيثة. لكن خبث إعادة إحياء دولة مبارك لا يعتد به أمام تشييخ الدولة، فقد هبت هبة البعض من شباب الثورة الأنقياء الأطهار الأبرار الذين عانوا بعد ثورة يناير من جنون العظمة الثوري والانتشار الفضائي المزري وعلت الأصوات المنددة بعدم التمثيل الكافي لشباب الثورة في اللجنة التي سيطر عليها «الشيوخ» و «العواجيز». «عواجيز الفرح» - وهو المسمى المصري الذي يطلق على هواة الانتقاد ومدمني الاعتراض - تراوحت اعتراضاتهم بين «أحاسيس» بأن اللجنة غير متوازنة و «مشاعر» بأن اللجنة لا تعكس كل التيارات و «رؤى» بأن عملها لن يكون مستقلاًّ و «هواجس» بأنها ليست حرة نفسها وبأن جانباً من أعضائها ليس على المستوى المطلوب لكتابة دستور مصر بعد ثورتين في ما يزيد على عامين بقليل. وإذا كان قليل من الشك لا يضر القضية، وقدر من الاعتراض لا يسرّ الأقلية، إلا أن تحوّل كتابة الدستور إلى قضية جدلية لمجرد الجدل ومسألة تشكيكية لمجرد التشكيك والتخوين أمر بالغ الصعوبة، فصيادو السويس معترضون لعدم تمثيلهم، وفلاحو بني سويف حانقون لعدم دعوتهم، وشيعة مصر يهددون بالتصعيد السلمي لعدم وجودهم، والطرق الصوفية غاضبة لغيابها، ووصل الأمر إلى حد التصعيد الساخر بالقول إن «الراجل بتاع المعادي والست بتاعة الدقي تم تجاهلهما من لجنة الخمسين وهو ما يجعل اللجنة غير متوازنة»! وكانت النتيجة أن انفجر جانب من المصريين الذين يعدون الثواني ويحصون الدقائق أملاً في أن تمضي لجنة الخمسين قدماً في كتابة ما سيكتب وتعديل ما سيعدل لإنجاز خارطة المستقبل والخروج من عنق الزجاجة المتحجر سياسياً والمتلبد اجتماعياً والمتدهور اقتصادياً والمتهدد أمنياً والمدمر نفسياً. نجم عن الانفجار دعوات تهدئة بأن تترك اللجنة تعمل في سلام، على وعد بأن يتم فتح باب التشكيك والتخوين والتهديد والوعيد عقب استعادة مصر عافيتها. ومنهم من وعد بطرح مقترح بأن يكون لمصر دستور ربع سنوي، لا سيما وأن مصر حققت رقماً قياسياً في سن دستورين في أقل من عامين. آخرون تفجروا إبداعاً في هاشتاقات على «تويتر» تعكس غضباً طافحاً سخرية. هاشتاق «أنا ابن مين يا دادة؟!» المندد بتخوين اللجنة يتعحب تارة «لا فلول عاجبهم اللجنة ولا إخوان متقبلون لها ولا سلفيون راضون عنها! أنا ابن مين يا دادة؟!» أو «الليبراليون غاضبون لأن اللجنة لا تحوي كل فصائلهم والسلفيون غاضبون لأن اللجنة لا تحوي كل فصائلهم. أنا ابن مين يا داداة؟!» وهناك من اتخذ من هوية المعترضين على اللجنة معياراً للحكم عليها، فـ «المعترضون هم الإخوان والسلفيون ومصر القوية وحزب النور وتوفيق عكاشة ومصطفى بكري؟! إذن نحن نسير في الطريق السليم!». ولأن الأيام دول، ولأن القاعدة الحياتية تنص على «اظلِم اليوم، تُظلَم غداً»، فقد أشار البعض من أبناء وبنات النخبة بأصابع التذكرة التي لا تخلو من شماتة. فبالأمس القريب تم إقصاء كل التيارات المدنية من قبل تيارات الإسلام السياسي، ومن ثم رفعوا شعار «دور يا زمان كمان وكمان»! وكالعادة، فإن الأمر لا يخلو من محاولات إخوانية للتشويه تارة بنشر الإشاعات وتارة بنشر الأكاذيب. فمن «المخرج خالد يوسف عضو اللجنة يطالب بتقنين بيوت الدعارة وممارسة البغاء» إلى «المهمة الرئيسية للجنة الـ50 طمس هوية مصر الإسلامية» إلى «لجنة الـ50 تعمل على إضافة بند يسمح بسب الدين». وبين هذه النخبة وتلك، تدور دوائر لجنة الخمسين التي تحوي «أفضل» «أسوأ» من أنجبت مصر، وتمثّل «روح الثورة» «روح الانقلاب»، وتعكس «مطالب المصريين» «رغبات الانقلابيين» ... تمضي الأيام انتظاراً لدستور مصر «الجديد» «القديم» إيذاناً بجولة جديدة من جولات الصراع والتشكيك.