النسخة: الورقية - دولي تزايدت الأنباء في الفترة الأخيرة حول حدوث صدامات بينية في منطقة السيدة زينب، جنوب العاصمة السورية دمشق، وصل بعضها إلى تبادل اطلاق النار. وهي صدامات بين مجموعات من جيش الدفاع الوطني (شبيحة سوريين) وعناصر من تشكيل لواء أبي فضل العباس (عراقيين شيعة)، أو بين عناصر من «حزب الله» اللبناني وواحدة من تينك المجموعتين السابقتين، أو بين مجموعات مسلحة شيعية أو علوية قادمة من دول مختلفة. والبارز أن مسبب هذه المماحكات هو الاختلاف في أنماط العيش والسلوكيات الاجتماعية، وليس التباين السياسي. على العكس تماماً، فالجهات السياسية تحاول جاهدة ضبط واحتواء اشكال التباين السلوكي والاجتماعي بين أفراد تلك الجماعات المسلحة. يبدو المشهد شبيهاً تماماً بما كان عليه «المجتمع» الإسرائيلي «المتنافر» في فترات التأسيس الأولى للكيان: حيث استقدمت كتل سكانية من دول مختلفة حول العالم، غير متشابهة اجتماعياً وسلوكياً وثقافياً، وإن كانت تنتمي للديانة نفسها، دافعها الأساس هو التجمع في بقعة جغرافية تحوي أماكن مقدسة لذوي هذه المرجعية الدينية. كانت النزعة اليمينية الإسرائيلية وقتها، تذهب للقول إن هذا التباين الشديد مجرد اختلاف وتباين سطحي، وأن الانتماء للدين الواحد، والاصطفاف وراء مشروع سياسي واحد وواضح، يمكن له أن يبني روابط مشتركة بين مختلف الأمزجة والخيارات الاجتماعية والسلوكية، وأن يشكل بالتقادم القريب مجتمعاً متماهياً مع بعضه البعض هو «شعب إسرائيل». الشيء الآخر الذي يطابق بين هذه النزعة الشيعية-العلوية في سورية ونظيرتها الإسرائيلية، كامن في أن كلاً منهما ترى أن السكان المحيطين بهذه الأماكن المقدسة، مجرد أعداء استولوا على أرض «الأجداد»، وتحرير هذه المناطق من سيطرة هؤلاء «المستولين» على الأماكن المقدسة، فيما عودة ذوي وأحفاد هؤلاء المقدسين إلى «موطن اجدادهم» واجب ديني وإخلاقي مقدس. وهو خيار سياسي يدفع بالضرورة نحو المزج بين التناقض السياسي والعداء الثقافي والمجتمعي للسكان المحيطين بالأماكن المقدسة، حيث يُدخل الثانية في خدمة وسيطرة المسعى الأول. هذا المزج الذي صنع عبر التاريخ أفظع أنواع «الحروب المقدسة» التي كانت تفوح منها رائحة الأجداد والمخيلات التبشيرية و «استرداد الخطأ التاريخي». على أن أهم ما يماهي بين سلوك ومخيلة الطرفين كامن في وهم «الحداثة» وكمون «التفوق». فكل منهما يعتبر في اعماقه الدفينة أنه يحارب جماعة سكانية أقل مدنية وأدنى مرتبة واقرب للبربرية وأقل استعداداً للاندماج مع الكل العالمي والتحديثي. ويشكل ذلك المتخيل الجوهر الأساس لاستعدادهما لممارسة أنماط من العنف المحض ضد هذه الجماعة المتخيلة، من دون أي اعتبار لمعيار العنف الذي يجب أن يتناسب مع مستوى الصراع السياسي. فالآخرون، بالنسبة إليهم، خطأ في الجوهر، وتحطيمهم ليس سوى علاج لهم، ولـ «الحضارة» و «التمدن» العالميين. «السيدة زينب» ليس مجرد بقعة جغرافية محددة بتخوم هذه البلدة الشامية الجنوبية، كما لم تكن القدس مجرد بلدة تاريخية عاش فيها أجداد مؤسسي «الأسطورة الصهيونية» الأوائل. فالمكانان يمكن اعتبارهما مركزاً لسهوب وبقع جغرافيا مترامية، منسوبة لهذا المكان المقدس، وفي سبيل «حماية» قدسية هذا المكان، قد يدفع الأمر لتشكيل مساحة «أمان ذاتي» شاسعة، وصلت في الحالة الإسرائيلية لضم واحتلال فلسطين كلها، وبقع وأقاليم عدة من دول الجوار المحيطة. وفي حالة «السيدة زينب» فالأمر يتطلب راهناً الحفاظ على حُكم آل الأسد بأي ثمن كان، وهو الضمان الوحيد لاستمرار حماية هذه البقعة المقدسة وغيرها من الأماكن المتناثرة على طول الجغرافيا السورية. يصف الروائي الإسرائيلي عاموس عوز في روايته «حكاية عن الحُب والظلام»، حال يهود مدينة القدس عقب حرب التأسيس الأولى للكيان الإسرائيلي بالقول: «لم يكن يهود القدس يرفعون أقدامهم عن الأرض كثيراً أثناء المشي، فقد كانت الخشية تملأهم بأن أحداً ما غيرهم قد يضع قدمه مكان قدمهم لو رفعوها كثيراً». في الحالة السورية، لم يكن ثمة شيء من ذلك أبداً، فجميع البقاع الشيعية المقدسة، على امتداد الجغرافيا السورية، لم تكن مجرد أماكن مفتوحة ومصانة من جميع السوريين فحسب، بل كانت على الدوام أماكن مقدسة بالنسبة الى جميع السكان على الاطلاق، لكن كل فظاعة سياسية، كالاستبداد الأسدي، تحتاج الى أساطير ومخيلات «مقدسة»، كالتحذير من الخطر الذي يداهم المزارات الشيعية في سورية. * كاتب سوري