الدكتور فؤاد زكريا طليعة العَلْمانيين المعادين لكل توجُّهٍ إسلامي على مستوى الحكومة أو مستوى الحياة العامة، وفي كتابه العلماني (الحقيقة والوهم) يُطلق صفةَ التزمت على برنامج العمل السعودي في المسيرة الإسلامية؛ نشراً للإسلام، ودفاعاً عن حقوق أهله.. ويصف عملها الخيِّر بالتزمت الإسلامي؛ وذلك من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ فهو يهجو الإسلام حقيقةً، ويهجو الإسلام من خلال ذمِّه لبرنامج العمل السعودي، ولا عيب لبرنامج العمل السعودي بنص عبارة الكاتب إلا أنه «يرعى معظم الحركات الإسلامية في الأقطار رعاية مادية ومعنوية»!!.. والواقع أنه يرعى كل الحركات بعد فحصٍ دقيق لواقع الحركة؛ فهذا هو الذنب العظيم الذي ترتكبه السعودية !!.. إن فؤاد زكريا علماني غير مُلْتزمٍ وغير متستِّر، وهو يعترف بدور السعودية في رعاية المدِّ الإسلامي، ولكن يغيظه ذلك؛ لأنه عدو للإسلام، ولأن الإسلام عنده تزمُّت.. والقارئ المسلم سواء أكان سعودياً أم غير سعودي يَسرُّه مثلُ هذا الغيظ؛ لأنه نتيجة عمل تقوم به حكومة مسلمة جعل الله قَدَرَها أنْ تحملَ همومَ الأمة المسلمة، بل يُسَجِّلُ عليها العتابُ الشديدُ قبل التفكير في غيرها إن قصَّرتْ في حَمْل الهمِّ الإسلامي؛ وإنما يكون التقصير تقصيراً مع القدرة!!. قال أبوعبدالرحمن: والخطورة ليست في طرح الدكتور فؤاد، بل تكون في طرح من يتستَّر تحت اسم الإسلام، ويهاجِمُ مَعْقِلَه باسم التباكي عليه، ويُعَبِّئ الجماهير ضده باسم الدعاء إليه.. وهكذا فعل أكبر علماني في أوروبا وهو الفيلسوف الماركسي الفرنسي روجيه جارودي الذي شاع في الأوساط الإسلامية أنه مسلم منذ أعلنت مجلة اليقظة العربية إسلامه عام 1986م، وكانت دعوى إسلامه قبل ذلك بثلاث سنوات، وكُفْره بالماركسية ليس مجال شك، ولكنَّ تحوَّلَه عن الكثلكة محل نظر.. إن إعلانه للإسلام جزءٌ من عمله في التنصير وإن غضب السُّذَّج، ومن براهين ذلك كتابه (الإسلام والخطر السعودي)؛ فهذا لم يغظه ما غاظ الكاتب العلماني الدكتور فؤاد زكريا من دعمٍ للمدِّ الإسلامي علناً؛ لأنه لا يريد الإسلام أصلاً.. وأما جارودي فقد غاظه أن تبقى للإسلام دولة على منهج أهل السنة والجماعة المُتَحرِّين مذهب السلف في جزء من المعمورة، ولا سبيل لشفاء هذا الغيظ إلا بالتستر بالإسلام للدعاء إلى دعوى إسلام ليس فيه شيئ من رائحة السنة والجماعة.. إن التحرك السعودي خطر إسلامي بمقياس زكريا، وهو كذلك خطر إسلامي بمقياس جارودي ولكنه سمَّاه خطراً على الإسلام؛ ليغري السذج.. وأول رائحة عفنة في كتيِّب (الإسلام والخطر السعودي) وكله عَفَنٌ عندما رأيته يُلغي الإسلام عقيدةً وشريعة؛ ليكون ثورة ثقافية وحضارية !!؛ فهل يقول هذا مسلم؟!.. إذن ما الفرق بين الإسلام وبين كل جُهْدٍِ بشري كالحضارة الفرعونية؟!.. وإذن فالجهد السعودي في نشر الإسلام والدفاع عنه عقيدة وشريعة خطر على الإسلام؛ لأن الإسلام عند جارودي ليس تنزيلاً ربانياً، وإنما هو ثورة ثقافية حضارية بشرية صنعها مثل ابن سينا!!.. ومن العفن الجارودي تسربله بشبه دعاة التقريب بين الأديان؛ ليلغي ما حتَّمه الله من كون الدين عند الله الإسلام، فهل يقول هذا مسلم صادق الإسلام؟!.. وقد أفضتُ عن حاله في غير هذا الموضع؛ وإنما المُهِمُّ ههنا دور المملكة العربية السعودية؛ فهي دوحة العروبة، ومحلُّ إشعاع النور الإسلامي، و لأهلها تَجِلِّة ومحبة ما ظلوا ملتزمين بدينهم؛ لأنهم حملة الرسالة، والأفقه بلغتها.. وهم جوهر المادة لِحَمَلَتها.. وقيادتها من دولة لم يجتمع عليها الشمل منذ المحمدين إلا بالإسلام، وظلَّتْ ثلاثةَ قرون ولا تزال لا دعاية لها غير الإسلام، واعتورها في العصر الحديث من مظاهر الحضارة ما اجتثَّ الجذور في بعض اللدان؛ فاستماتت دون الجذور، وظلت التنمية بكل أبعادها تواكب النمو الحضاري العالمي، ولكن ظلَّ سلوكنا بفضل الله على هُوِيَّتنا التاريخية.. وإذا قلتُ أو قال غيري : (إن بِنْية مجتمعنا متينةٌ متماسكة) فلا يعني ذلك أن الدولة على الهامش، بل معنى ذلك أن الدولة أقامت أسس المجتمع منذ المُحمَّدَين، ثم ظلت ترعاه.. وفي لحظات التقصير من أحد الطرفين ظل المجتمع يُذكِّرُ دولتَه بالجذور التي سقاها المحمدان، وظلت الدولة تذكِّر مجتمعها بحقها في حماية ذلك الكيان ورعايته.. ويجري خارج رقعة المملكة ما لا يُرضي من مآسي العرب والمسلمين، وترمي المملكة بِثقلِها دبلوماسيةً وإعلاماً وبذلاً، وتواجه كل الضغوط.. ومع هذا يظل جانب العتْب أرجح من جانب الشكر -كما هي سنة الله في طبائع البشر-؛ لأنها دولة الإسلام أهل السنة والجماعة الذين يتحرَّون مذهب أهل السنة والجماعة بكلِّ إمعان وصدق، والآمال المعلقة بها جياشة، وكلما كبر الرجاء صَغُر جانب العذر!!.. وأكبر العتب على هذه الدولة أن لا يوجد عندها في مواقف نادرة إلا بصيرة الخيِّر العاجز!!.. وعجز الخيِّر المتمزِّق ألماً كان أمام جبروت التحديات من العناصر التي سَدَى منها المزايدون ضباباً يُحاول أن يغطي مواقفها الكبيرة الكثيرة الفعالة.. وهكذا فعل المضللون من غير دولة أهل السنة والجماعة ممن بانت مواقفهم الرديئة في البوسنة والهرسك مع الطنين الإعلامي، والسعودية دولة وشعباً وجودٌ ضخم (وإن كان قدرها أنها من العالم الثالث) يغيظ الكفار عموماً؛ لأنها البلد الوحيد الذي لم تنفصل فيه الدولة عن الدين، ولم ينفصل الدين عن المجتمع والحياة العامة.. وهو وجود يغيظ المزايدين من الفِرق الضالة الذين يحملون من الضغينة والبغضاء والحقد الأسود الدفين ما لا يحمل مثله خالصو الكفر. قال أبو عبدالرحمن: الهجمات الإعلامية الشرسة والعدوانية بالممارسة الفعلية في عواصم العالم الحُرِّ تأتي من غير أهل المِلَّة، وهم أكثر أهل الأرض، ومن ضُلَّال آخرين مردوا على النفاق من غير أهل السنة والجماعة، وهم صنوف.. ويبقى بعض الخيِّرين من أهل السنة والجماعة عرضةً للاغترار بالهجمات الذكية المُغَلَّفة كهجمات جارودي في كتيِّبه الإسلام والخطر السعودي وقد ذكرتُ لكم طرفاً منها، ومن يبهره نشاط السعودية حكومة وشعباً في نشر الإسلام ثم يسمي ذلك النشاط خطراً على الإسلام لابد أن يكون زنديقاً مُتَسَتَّراً بالإسلام، وجارودي حذَّر من السعودية شعباً كما حذر منها حكومة؛ لأنه رأى تلاحم الشعب السعودي مع آلام وآمال المسلمين فحذَّر من الانحدار الحنبلي السلفي السني النصي والله حسيبه.. والسعودية منذ بدأت المُتَغيِّرات بعد اقتسام الدول القوية تركة العرب والمسلمين كانت تتعامل مع هموم المسلمين بوعي وحسن نية معاً؛ فالملك عبدالعزيز -رحمه الله تعالى- في مقابلة الشيخ حسن البنَّا رَحَّب بدعاية الإخوان المسلمين؛ لأنها دعوة يباركها كل مسلم، وبيَّن له: (أننا كلُّنا إخوان في الدين)، وأن تكون الدعوة سِلْمية سليمة عاقلة لا تذهب بريحهم، وأن الإخوانيين في سعي لإقامة دولة إسلامية ليس فيها وشب من القانون الوضعي، وأن السعودية منذ قامت خلال ثلاثة قرون لم يحكمها غير الإسلام؛ وهي ملتزمة مذهب أهل السنة والجماعة الذين يتحرون مذهب السلف الصالح من المهاجرين والأنصار.. وكلام عبدالعزيز لم يكن كله بهذا النصِّ؛ فهو يخاطبه بأسلوب عادي مباشر يتَّخذ الإيماء واللمحة، وهو على علم بما يَحْدث من اغتيال بعض المسؤولين ومحاولة اغتيال بعضهم.. ولمَّا طرح البنَّا مسألة الخلافة وعبدالعزيز يعلم التَّعدُّدية في الملة والنحلة: بيَّن له أن ذلك محال في واقع العرب والمسلمين بعد اقتسام الدول القوية تركتهم وزرعهم العملاء، وتشديدهم الرقابة من أجل أن لا يقوم حكم إسلامي.. وكان عبدالعزيز في محاولات لإنشاء جامعة إسلامية؛ فلما اشتدَّت الوطأة على هذا المطلب جعل من مِنى في الحج جامعة إسلامية، وجسَّدها فيما بعد الملك فيصل -رحمهما الله تعالى- بالتضامن الإسلامي.. وأنقذ الملك فيصل الإخوان من جحيم عبدالناصر، واحتضنهم في بلده، وبلغ به حسن الظن أنْ فتح لهم المجال في أخطر المرافق بأن يكونوا أساتذة للناشئة؛ فكانت النتيجة والشُّكران أن أحدثوا الفرقة والتعدية والتحريض على مُلْك رحمة قائم بحدود الله، مُحَكِّماً الإسلام في كل أجهزة الدولة، فاتحاً منابر الدعوة، جاعلاً الدولة جهة تنفيذ لما يصدر عن ذوي العلم الشرعي وذوي العلم بالوقائع.. وقد خفقت الرايات في الرياض والحجاز بتوالي زيارات زعماء العالم الإسلامي، وبادلهم الملك فيصل الزيارات، فدعوه لمبايعته بالخلافة فأبى، وألحَّ على التضامن الإسلامي، وبيَّن أن قيام الخلافة في تلك الأوضاع محال.. ولم يتغيَّر موقف مَن بعد الملك فيصل من جهة تحمُّلهم هموم المسلمين، وإنما كانوا في مواجهة ما زُرِع في أرضهم من بثٍّ خدمة الأطماع الدنيوية والأهواء بتسييس الدين لذلك؛ فهم (أي الإخوان) قبل أن يقيموا حكماً إسلامياً على غرار المملكة العربية السعودية نادوا بالخلافة، ونادوا بزحزحة الدولة الإسلامية لتكون مصادرُ الدولة الثرية واستراتيجيَّتُها ملكاً للخلافة المُحالة في هذا الواقع، وهم لم يحكموا حكْماً إسلامياً جزئياً في بعض رقعة من بلادهم المليئة بتعدُّدية النحل والملل والأيديولوجيات؛ أفيكون بداية التغيير عند هؤلاء مُتَّجهاً إلى معقل الإسلام ومادته؟.. ثم إن للمملكة خصوصية في تحرِّيها بكل دِقَّة ما عليه السلف؛ فلا ترضى بتبديل قَدَرِها الكريم بنسيج من ضلاف بعض الطوائف كالباطنية أعداء الإسلام والمسلمين كما ترون اليوم في سوريا.. ثم إن ذوي الدعوة إلى الخلافة يُكَفِّرون كل المجتمعات على وجه الأرض؛ لأن حكم الإسلام لم يهيمن على الأرض؛ فتحالفت كلُّ القُوى في الداخل على دعايتهم.. مع العلم بأن المجتمعات في كل الدول التي يحكمها القانون الوضعي لا يَحِلُ تكفيرها؛ لأن منهم من يترك حقَّه فراراً من حكم القانون.. وَمَن كان غير مُضَايق في شعائر دينه، وغير قادر على التغيير كيف يكون كافراً؟.. ومصر على وجه الخصوص تُنْتِجُ أساتذة العالم العربي والإسلامي في علوم الشريعة، ومنابر العلم الشرعي في مصر ومنابر العبادة عامرة؛ فكيف يكون هذا المجتمع كافراً؟.. وقصارى القول أن المتغيِّرات الكريهة جَبَرَت المملكة العربية السعودية على فحص هُوِيَّة مَن تتعامل معهم، ولا سيما بعد ابتزاز مساعدات الدولة بالمال وتعمير المساجد والمنشآت في الخارج وتوظيفها لأعمال تخريبية، ولما هو ضدُّ الدولة الباذلة عقيدة وولاء أو براء؛ وإلى لقاء عاجل -إن شاء الله-، والله المستعان.