وعدتكم بالكتابة عن المدن، لكنني ما إن أترجل من قطار أو طائرة حتى أشرع في الحديث عن أهلها. ألم تسم مدنا بسبب أهلها وعمرانها؟ الناس تعمر والناس تخرب. سألت السفير منير تقي الدين: ماذا يجب أن ترى في بلغراد؟ فقال: قلعتها التي تلقت أول مدافع الحرب العالمية الأولى. قلت: وغيرها؟ قال: الدانوب؛ فهو هنا أجمل منه في فيينا. قلت: وبعدهما؟ قال: نتناول العشاء في «مقهى الأدباء». قلت: لماذا؟ قال: لأنك سوف تشعر بأنك في الغرب، وسوف تدرك مدى الحرية التي أعطاها تيتو للناس، كي يميز نفسه عن موسكو وبكين. لقد اختط لبلاده طريقا آخر سماه عدم الانحياز، لكثرة ما عانت يوغوسلافيا في الحربين العظميين. يريد الاشتراكية، لكن من دون الهيمنة السوفياتية ومن دون الوقوع في الكتم الصيني المغلق مثل غرفة الكهرباء. كان السفير تقي الدين يعد كتابا عن تيتو، ذلك الأوروبي الأبيض الذي أعلن انتماءه إلى أهل العالم الثالث وألوانهم المتعددة والمناقضة للون الاستعمار. آسيويون وأفارقة وعرب وهنود، يفرحون للمرة الأولى باستقلالهم وكياناتهم. إندونيسيا سوكارنو من دون الهولنديين، وهند نهرو من دون الفايسروي لويس، لورد ماونتبنغ وزوجته الأميرة فيكتوريا، ومصر عبد الناصر من دون وصاية الإمبريالية، وغانا نكروما وسائر أفريقيا من دون مفوض سام أبيض اللون ينتعل جزمة طويلة ويدق عليها بعصا فضية الطرف. كان ذلك عصر الفرح والأمل. لا عبوديات بعد اليوم ولا فقر. وعلى الرجل الأبيض أن يعتاد الحياة الجديدة التي لا سادة فيها ولا أتباع. وا أسفاه! سرعان ما صار عصر الخيبة. الاستعمار الأبيض صار طغيانا محليا بألوان كثيرة. السوط الأبيض صار عصا سوداء تضيق الأمل وتوسع السجون. حكاية طويلة، لكن بلغراد في ظل تيتو، كانت مدينة لها وقع واسم ومكان في كل مكان. يكره السوفيات تمردها ويهابون صمودها. يتقرب منها الأميركيون ويحترمون صدها. ويناور بها تيتو مثل سفينة في النو، لا يهم أن تشقى، المهم ألا تلطم صخرا أو تغرق رملا. لأن التحطم هو النهاية. هذا ما سوف يحدث بعد عقد واحد مع سلوبودان ميلوشيفتش، الذي سيفتت ما بناه تيتو. الحماقة بعد العقل، والرعونة بعد المسؤولية. العشاء في مقهى أو بالأحرى نادي الأدباء، كان كأنك في مقهى «حديقة الأزهار الليلكية» التي ارتادها همنغواي كل ليلة في باريس. اللباس كأنك في باريس. السجائر سوداء التبغ كأنك في باريس. الشعر النسائي كأنه تقليد المغنية الوجودية جولييت غريكو. لكن هذه كانت النسخة. الأصل كان في بوليفار السان جيرمان، عند تقاطع شارع الملكة وشارع نابليون. على أن كل من جاء إلى بلغراد وله اسم وشهرة، جاء إلى نادي الأدباء. وأيضا ترك جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار السان جيرمان وجاء إلى النادي، الذي أسسه «أهل القلم» في الركام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك المساء كان السفير تقي الدين يحكي لي عن بلد سيبقى الدهر وسوف يصبح درة الشرق والغرب. سوف يصبح هو نموذج التعايش بين الأمم. 40% من الزيجات في يوغوسلافيا مختلطة، نصف الشعب أبناء مختلطون. لم يكن يعرف أن رجلا أرعن سوف يأتي وأن يوغوسلافيا سوف تذهب. إلى اللقاء.