سبقني إلى تعرية الزيف الأدبي الدكتور [زكي مبارك] رحمه الله - بكتابه [جناية أحمد أمين على الأدب] والجناية بوصفها مصطلحاً لرجال الأمن تختلف عنها بوصفها مصطلحاً لأعلام الأدب. وعلى ضوء ذلك يجب تلقيها على أنها مؤشر خطأ، وتقصير. وهي كذلك في عوالم معرفية أخرى، إذ هناك من اتهموا [سيبويه] و[الشافعي] وألفوا بذلك كتباً عن جنايتيهما على [النحو، والفقه]. والجاني في الحقيقة من أتهم هذين العلمين المؤسسين للفقه والنحو. ولما كانت ظاهرة السرديات القصصية، والروائية من أعقد مشكلات الحركة الأدبية في عالمنا العربي، والمحلي، لزم أن تعالج بهذا المستوى من الصراحة، ولا سيما أن الزمن زمن الرواية، كما يحلو لرأس الحداثة [جابر عصفور] أن يدعيه، وهو محق بهذا الإطلاق. فالانفجار الروائي اكتسح أنواع الفنون القولية كافة، وسلب الشعر سلطانه المهيمن عبر ما سلف من القرون. ولما كان النقاد أمناء على حرمة الأدب، كان من واجبهم ألاَّ يزيفوا وعي أمتهم، فهم الذين يمنحون الشرعية لكل طارئ على المشهد، وهم متاريس القيم الجمالية والأخلاقية، وحماة اللغة والأدب. ومتى تهاونوا، أو داهنوا، انتهكت حرمات الفن، واللغة، والأخلاق. وحين نتحدث عن ظاهرة السرديات الإبداعية، المتمثلة بـ[القصة، والأقصوصة، والرواية، والسيرة، وأدب الرحلة] لا نجد بداً من الإشارة إلى الأصول التراثية، التي لم تعد حاضرة المشهد الأدبي بشرطها التراثي ومقومها. المؤكد أن السرد القصصي لم يكن طارئا على الأدب العربي، وفي القرآن أحسنه، ولكنَّه بمعماره الجديد، وتنوعه، ينحو طريقا غير طريق الأدب العربي القديم، ثم لم يكن هو عربياً خالص العروبة، وليس لدينا اعتراض على هذا التعالق متى تم بوعي واقتدار، وندية. الملفت للنظر إن الأوائل من العرب، لم يَعُدُّوا النثر من الإبداع، وإن ظهر في وقت مبكر سجعُ الكهان، واشتهر الخطباء، وحُفظت الوصايا، وتبودلت الرسائل، وسارت قصص الأمثال. ولو كان للنثر بعضُ سلطان الشعر، لكان للقصاص والمذكرين في العصر الأموي شأن عظيم، وهم قد ملؤوا الرحب، وشدوا الانتباه، وأقامت لهم السلطة السياسية مواقع في المساجد والأسواق. ووجد فيهم المُلْكُ العضوض سبيلاً من سبل التلهية، وملءِ الفراغ، لدى الرأي العام. وكانوا إلى جانب أصحاب [النقائض الشعرية]، الذين أثْروا اللغة، وأمتعوا الغاوين، يملؤون فراغ الناس، وتلهوا بهم الدهماء عن منازعة الملك أهله. ولو أدرك النقاد مَكْر الساسة، ونشوء اللعب السياسة مع نشوء السياسة، لكان للقَصِّ الشفهي شأن عظيم، ولقُرِئَت النقائض الشعرية بطريقة أخرى. ولو عُدَّت السرديات إبداعاً بإزاء الشعر لكان لها شأن لا يقل عن شأنه. وإذ احتفى اللغويون والبلاغيون، بالشعر وحده، وقوي سلطانه، وعلا شأنه، فقد فقدت الحضارة العربية شطراً من البعد الفني للسرديات. والمؤرخون للأدب كافة يكادون يجمعون على استبعاد الدور الرائد للتُّراث العربي في مجال السرديات الإبداعية، ولهذا طغت السرديات الغربية، وأصبح التنظير الذي وضعه الغربيون لأنواع السرد كافة، مرجعاً، وحكماً، ومتكاً للمبدعين العرب، وتلك التبعية انْسَتْنا ما في تراثنا من إشارات رائدة، ما كان لنا أن ننساها. ولست هنا بصدد تحرير مَوْطن النزاع حول القيمة الفنية واللغوية والدلالية للسرديات العربية القديمة، وإن كان يحزنني ذلك التسليم الخانع لجاهزيات الأحكام، التي نتوارثها على أنها أقوال لا مُعَقب لها. لا أجد بداً من استذكار اللقاءات الأسلوبية الفاعلة عن النَّصَّ الأدبي، ومستويات قراءته، التي كان ينظمها [نادي جده الأدبي]، ويُدعى لها أساطين الفكر، والأدب العربي من الداخل والخارج، ويكون للحداثيين النصيب الأوفى فيها. وحين شاركت في بعض ملتقيات قراءة النص عام 1409هـ، وكان حديثي إذ ذاك عن [ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة] أثارت تلك الورقة جدلاً عريضاً، وصدامات حادة، واعتراضات عنيفة، وسخرية مُرَّة، لا لخطاء في منهجها، أو في لغتها، ولكن لأنها تنصف الموروث النقدي، وترحل به إلى الراهن، وتؤكد ريادته لكثير من الظواهر، وتكشف عن الانهزام النفسي، والتسليم المطلق للادعاءات العريضة، التي يروج لها المستكبر، ويصدقها المغلوب. والورقة ومداخلاتها موثقة في سلسلة «علامات»، التي يصدرها [نادي جدة الأدبي]. وكلما عدت إليها أحسست أن الجيل المندهش بالمستجد، لمَّا يزل استسلامياً مبهوراً. والإشكالية أن هذا الجيل يهيمن على المشاهد كلها، ويرسم مسارها، على الرغم من ضمور تفكيره وتسطح معارفه. وليس أدل على ذلك من ظاهرة ((التواصل الاجتماعي)) الذي عرَّى التفاهة، والضحالة، وسوء الأدب، والفشل الذريع في إدارة الأزمات. ويقيني أن المتردية، والنطيحة من هذا الجيل الطاعم الكاسي بحاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويربط على قلبه، ويثبت أقدامه. فعواصف التغيير لم تكن بالحجم المُسَيْطَر عليه، ومن ثم اقتلعت الثوابت، ونسفت المسلمات، وجاءت بأخلاقيات، وثقافات، واعترافات مسفه، لم يألفها عقلاء الأمة. هذه المقترفات جاءت محمولة على أكتاف السرديات. وهي إن تُركت على سجِيَّتها، قضت على رسيس القيم. ولما كانت السرديات جزءاً من وسائل التبليغ، فإننا مضطرون إلى ضبط إيقاعها، وترشيد مسارها، وليس شرطاً أن تكون وعظيةً، ولا دعوية، ولا من أدب الرقائق. وأضعف الإيمان أن تكون السرديات سديدة طيبة، مستكملة لمتطلبات الفن، واللغة، وأدبية النص. وإذ ذهب سلطان الشعر عن المشهد الحديث، فإن النثر خَلَفَه، والزمن زمن الرواية كما يقال، ولكن عبث الروائيين أسهم في ضياع أدبية النص، وأخلاقيات الأدب. ومعاذ الله أن أبادر بالأحكام دون برهان، فالمشهد الأدبي يكاد المنصفون من نقاده يجمعون على إخفاق الرواية فيه: لغوياً، وفنياً، ودلالياً. ولقد كنت -ولما أزل- ألِمُّ بالإبداعات السردية، بين الحين والآخر، وأكاد أقطع بأنها لم تكن مغرية بالقراءة. فالإبداعات الروائية كتب بعضها بأقلام مقتدرة، وليست موهوبة، وشابة، وليست مجربة. وهناك فرق شاسع بين كاتب مقتدر، ومبدع موهوب مجرب. على أن عيب الموهوبين يكمن في ضعفهم اللغوي، وضحالتهم الثقافية، وتوسلهم بالإثارة، ومقاربة المسكوت عنه. *** يتبع...