النسخة: الورقية - دولي عدتُ إلى لبنان بعد غياب طويل فرضته ظروف العمل والسفر. ورأيت الوطن الصغير غارقاً في عملية تغيير بنيته السياسية بسبب انشغال نوابه في معركة رئاسة الجمهورية التي تشكل اختباراً جدياً لتخفيف بلبلة الإرادة الشعبية. ولقد عبَّر البطريرك الماروني، مار بشارة بطرس الراعي، عن هذه البلبلة بإعلان حزنه وغضبه بسبب شهوة الطامحين إلى الرئاسة، خصوصاً أن أقطاب الموارنة الأربعة كانوا قد تعهدوا بالعمل معاً من أجل منع الفراغ في موقع الرئاسة الأولى. ولكن هذا التعهد تعرض للإلغاء بسبب التناقض الذي تمثله الكتل المارونية المتنافسة على كرسي الحكم. وكما صُدِمَ البطريرك الراعي، كذلك صُدِمَ الرئيس ميشال سليمان الذي اختتم ولايته بجلسة حوار وطني غاب عنها ممثلو «حزب الله»، إضافة إلى عدد كبير من نواب فريقي 8 و14 آذار. ورسم الرئيس في كلمته الأخيرة خطوط «خريطة الطريق» التي توَقع من خلفه أن يتبناها حرصاً على مستقبل الوطن. وشدد على ضرورة وضع استراتيجية دفاعية تأخذ في الاعتبار سلاح «حزب الله» الذي أصبح دوره الداخلي والخارجي موضع جدل بين اللبنانيين. واعتبر أن بقاء الكيان والنظام رهن بانتخاب الرئيس، وأن انتخابه بتأمين النصاب وليس بالتعطيل والتهرب من تأمينه. ورأى الحاضرون في كلام الرئيس تحذيراً مبطناً من مغبة التداعيات المتوقعة في حال فشل النواب في تجاوز هذه الأزمة الدستورية، خصوصاً أن قوى 8 آذار و14 آذار هي قوى متساوية في الأحجام. لذلك، يلعب النائب وليد جنبلاط دور «بيضة القبّان» بينهما على اعتبار أن انحيازه إلى فريق دون آخر يمكن أن يحسم موضوع الاستحقاق الرئاسي. صحيح أنه ترك ورقة جان عبيد محفوظة حتى آخر الشوط... ولكن الصحيح أيضاً أنه رشح النائب هنري الحلو بهدف تحاشي المطالبة بدعم ميشال عون أو سمير جعجع. وفي هذا السياق، يتساءل النواب عن الهدف البعيد من المناورات السياسية التي يقوم بها جنبلاط... ولمصلحة أي مرشح مجهول يمارس «ابن عمود السما» لعبة والده الذي وُصِفَ بـ «صانع الملوك»؟ المقربون من جنبلاط يشيرون إلى المديح الذي كاله الزعيم الدرزي للرئيس ميشال سليمان عقب انفضاض جلسة الحوار الوطني. ولقد انبرى لتأييد هذه الصفات الحميدة عدد من المسؤولين في مقدمهم الرئيسان فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي. الوضع المتأزم، وفق ما يراه أنصار جنبلاط، قد يفرض على المجلس النيابي التمديد سنة أو سنتين للرئيس ميشال سليمان. وحجة النواب أن الانتخابات النيابية المقبلة لن تحدث ما لم يتم انتخاب رئيس الجمهورية. وبما أن الرئيس التوافقي أو الوفاقي - كما يصفه ميشال عون - لم يطل بعد، فقد حاول الرئيس السابق أمين الجميل إقناع العماد عون بأهمية دعمه في حال بقي جعجع رهين المراوحة والجمود. ولكن الخطأ التكتيكي الذي ارتكبته جماعة 14 آذار يكمن في تجاهل قوة الرفض الممثلة بـ «حزب الله». أي الحزب المؤيد علناً انتخاب العماد عون... ولكنه في السر يراهن على قائد الجيش جان قهوجي. أي أنه يطمح إلى تجديد دور الرئيس إميل لحود الذي أعطى «حزب الله» أكثر مما طلب، ومما ينبغي! ومع أن الإنجازات الأمنية التي حققها قهوجي كانت مفيدة للمواطنين عموماً، إلا أن «حزب الله» استفاد منها محلياً بعدما نجح الجيش النظامي في وقف حملة المتفجرات الجوالة. وكان من الطبيعي أن تقدِّر قيادة الحزب لقائد الجيش حماسته لمنع التسلل من سورية، الأمر الذي ساعد قوات الحزب على الانصراف إلى مساندة الحليف بشار الأسد. ويرى سفراء الدول الكبرى في بيروت أن حكومة تمام سلام لا تستطيع ملء الفراغ الرئاسي مدة طويلة، خصوصاً إذا فشلت الوساطة الآيلة إلى مصالحة السعودية وإيران. ومثل هذا التطور قد يُفسد عملية الانتخاب بواسطة المرشحين من الفريقين، ويعود ليذكّر بأن حاجات أمنية وسياسية فرضت التمديد للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود. ويبدو أن هذه الفرضية مرشحة للتكرار، كما يرجّح الوزير السابق روجيه ديب، خصوصاً مع استعداد رئيس المجلس نبيه بري لأداء دور «العرّاب»! الإعصار الثاني الذي يشغل بال المواطنين يتمثل في تدفق النازحين السوريين إلى لبنان بأعداد كبيرة تجاوزت حدود طاقته المالية والاجتماعية والأمنية. وكان وزير الشؤون الاجتماعية، رشيد درباس، قد زار الأردن للاطلاع على التدابير المتخذة في مخيم الزعتري للنازحين السوريين. وأخبره الوزير الأردني أن الدولة حريصة على تسجيل كل نازح في ملف يحمل معلومات بالغة الدقة عن مكان سكنه في سورية، والأسباب التي دعته إلى المغادرة، كل هذا بغرض إبلاغ وزارة الداخلية عن أوضاع المخيم الذي يؤوي أكثر من مليون نسمة، إضافة إلى عشرة في المئة يتوزعون على المجتمعات المحلية. وعاد الوزير درباس بانطباع جديد حفزه لوضع مشروع حل قبل أن تتحول هذه المأساة الإنسانية إلى مشكلة داخلية لبنانية، خصوصاً أنها قوبلت بالإهمال من جانب الحكومة السابقة التي رفضت احتواءهم ضمن المخيمات، تفادياً لكثرة الضغوط. وذكرت صحف عربية عدة في حينه أن الدولة اللبنانية تتساهل في دخول النازحين على أمل زيادة عدد السنّة، وتفريغ سورية منهم. وعلى رغم القرار الذي صدر بمنع التسلل عبر الحدود اللبنانية، إلا أن النزوح ما زال مستمراً باتجاه لبنان بعدما منعت تركيا والأردن دخول أي نازح جديد. علماً أن الدولة اللبنانية لم تتلقَّ سوى عشرين في المئة من الدعم الذي وعدت به المفوضية العليا للاجئين. كذلك لم تحصل إلا على كميات ضئيلة من الأغذية والأدوية. أعلن وزير خارجية الأردن ناصر جودة، عقب اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار السوري، أن المجتمعين قرروا مخاطبة المجتمع الدولي لزيادة الدعم لدولهم، وتطبيق القرار 2139 الذي يؤكد أهمية استمرار المساعدات للنازحين داخل سورية وخارجها. واعترف وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن بلاده طلبت من مجلس الأمن تنفيذ القرارات المتخذة بخصوص تأمين العون لأكثر من خمسة ملايين مشرد داخل الأراضي السورية. وذكرت الصحف الأردنية الأسبوع الماضي أن وزارة الداخلية أمرت بإقامة مخيم جديد للنازحين السوريين في منطقة «الأزرق» الصحراوية، تبلغ طاقته الاستيعابية حوالى 130 ألف شخص، وذلك بهدف تخفيف الضغط عن مخيم الزعتري. المقترحات التي توافرت للدولة اللبنانية تشير في غالبيتها إلى ضرورة بناء مخيمين: الأول وراء منطقة المصنع القريبة من الحدود السورية... والثاني وراء بلدة البداوي - بعد طرابلس - في بقعة ملاصقة لحدود سورية. والخطوة الثانية تبدأ بنقل النازحين من المناطق التي توزعوا عليها، خصوصاً في منطقة الجنوب التي تعاني من استيعاب أعداد اللاجئين. وفي هذه الحال، تستطيع قوى الأمن ضبط الأوضاع داخل الحدود، بحيث تتوافر المراقبة المطلوبة لمنع السرقات والتجاوزات والمنافسة غير المشروعة. ويتوقع المسؤولون ألا تمر هذه الإنجازات بهدوء وسلامة، لأن عدداً كبيراً من السوريين النازحين أعرب عن خشيته من انتقام النظام... ومن ضراوة الوضع الاقتصادي الذي حرم ملايين المواطنين من منازلهم ومزارعهم وأبواب رزقهم. اعترفت الحكومة اللبنانية بأن الخسارة المادية المتأتية عن النزوح السوري تجاوزت الثمانية بلايين دولار. كما اعترفت بأن أعداداً كبيرة من النازحين تتعمد الدخول إلى لبنان بهدف الاستفادة من المساعدات التي تؤمنها الأمم المتحدة والمنظمات الأهلية. وعليه قررت الدولة إبعادهم في حال تأكدت من سلامة الوضع في قراهم ومدنهم. الإعصار الثالث الذي يزيد من هموم اللبنانيين يتمثل في تدني نسبة الأمطار على نحو غير مألوف، خصوصاً أن عمليات استهلاك المياه تزداد في موسم الصيف. وعليه بدأت آلات الحفر تعمل في مختلف المدن اللبنانية. يبدو أن ازدياد الهلع ناتج من كلام الصحف التي ذكرت أن لبنان سيدخل في دائرة التصحّر مثل الأردن. وكان رئيس الوزراء الأردني الدكتور عبدالله النسور كشف، في مؤتمر صحافي، أن بلاده ستقوم ببيع وشراء مياه من إسرائيل بعد إنجاز المرحلة الأولى من مشروع ناقل قناة البحرين (الأحمر والميت) بكلفة مقدارها 980 مليون دولار. وذكر أن الأردن سيتمكن من تحلية مئة مليون متر مكعب من المياه. كما سيتم تحقيق المرحلة الأولى من هذا المشروع بتوجيه مياه البحر الأحمر وتحليتها وتصريف المياه المالحة في البحر الميت. ويتوقع الخبراء أن تنقَل المياه العذبة بالأنابيب إلى العقبة بحيث تلبي حاجات أهل المنطقة. أما الفائض عن الحاجة فسيُباع إلى إسرائيل بسعر دينار للمتر المكعب. وبسبب الشح الذي يعانيه لبنان، وتوقعات المراصد الجوية التي تتنبأ بفصول شتوية جافة، فإن اهتمام وزارة الطاقة والمياه منصب على معالجة المشكلة الخطيرة الناتجة من الجفاف. ذلك أن كمية المتساقطات فيه بلغت 400 ملم، فيما المعدل العام هو 750 ملم سنوياً. ويقول مستشار وزارة الطاقة والمياه، المهندس زياد زخور، إن سدَّي القرعون وشبروح لم يمتلئا هذه السنة. فالأول يستطيع تخزين 220 مليون متر مكعب، في حين لم يخزن لتاريخه سوى 59 مليون متر مكعب. بالمقابل، يبلغ المخزون الحالي من سدّ شبروح 3 ملايين متر مكعب، فيما حجمه التخزيني حوالى 8 ملايين متر مكعب. بقي أن نذكر أن الدولة لم تستكمل تنفيذ مشاريع سبعة سدود كانت بدأتها قبل ثلاث سنوات. في حين تحتاج البلاد إلى بناء 44 سداً بحيث تؤمن الاكتفاء من الثروة المائية التي وصفت لبنان بأنه اسفنجة المنطقة. واليوم، يترحَّم الناس على الشيخ موريس الجميل الذي طالب بمقايضة نفط السعودية (تابلاين) بمياه عذبة من لبنان ترسل في أنبوب ملاصق لأنبوب النفط. ولكنه مات قبل أن يرى أن إسرائيل سرقت مياه أنهره، ومنعت دولته من استثمار مخزون الغاز والنفط! * كاتب وصحافي لبناني