بين الأول من ديسمبر 1911 و30 أغسطس 2006 عاش صاحب رواية (الطريق) حياة مديدة فعلاً لا مجازاً. مرور السنوات من بين يديه، وتخلل حياته لحقب ومراحل، بدا من أول وهلة مهماً ليعيش هذا الكاتب الفريد، كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، وكأنه كل ما تبقى له. كتب نجيب محفوظ ما لم يمكن أن يكتبه سواه، تقلب في كتابة الرواية، وانتقل من موجة إلى أخرى، وفي كل موجة روائية كان ينتهي إلى الحافة، ثم يهدم كل شيء وكأنما يعود للكتابة من جديد. استوعبت رواياته البناء الكلاسيكي ثم نقضه وكتب روايات غارقة في التجريب والرمزية ومثيرة للأسئلة. لم يطرح كاتب عربي أسئلة شائكة وإشكالية مثل ما طرح هو. انشغل بالواقع في أكثر وجوهه بساطة ومباشرة، وفي الوقت نفسه راح يرتقي، أحياناً في العمل الواحد، ليلامس أكثر أسئلة الوجود تعقيداً. شغله الوجود والعدم، الحضور والغياب، دون أن يجد نفسه محاصراً بالثنائيات، بصفتها تشكل عائقاً أمام كتاباته المتدفقة. طارد الأسئلة، أسئلة الوجود، وطاردته حتى آخر رمق من حياته. رواياته مدونة حقيقية للواقع المصري، في كل مراحله، جعل من الحارة المصرية، استعارته الكبرى لواقع متشابك، كثير المنعطفات، تلاوينه ومفاجآته بلا حصر. انصرف صاحب (ثرثرة فوق النيل) إلى الإصغاء لدبيب الحارة، في الليل كما في النهار، في المقهى، كما في المؤسسة، في البيت كما في الشارع. رواياته حمالة أوجه، بناء متعدد الطبقات، عليك أن تنزع الطبقة تلو الأخرى، حتى تصل إلى الجوهر. مقولته الرئيسة، تختلف من رواية إلى أخرى، فهي في (السمان والخريف) غيرها في (اللص والكلام) و(زقاق المدق) أو (الحرافيش). رواياته مرايا للمجتمع المصري، نوافذ كلها مفتوحة على إنسان لا ينفك يعيش أزمة تلو أخرى. مثل نجيب محفوظ بطريقة عيشه، بنظامه الدقيق في الوقت وإدارته، في الجلوس إلى طاولة الكتابة، أعجوبة، صعب على الكثير تقليده فيها. طوال حياته أخلص للكتابة وقراءة الواقع كتابة، قيل عنه الكثير وترددت حوله الإشاعات، لكنه كان في كل يوم يرى عند ساعة بعينها وهو يعبر الشارع، ذاهباً أو عائداً. قالوا إن رواياته تقليدية، أشاعوا أن رؤيته مباشرة ولا جديد فيها، أكدوا أنه محايد وليس له موقف، لكنهم في كل مرة يقولون أو يشيعون أو يسعون إلى التأكيد، ينقلب السحر على الساحر. حتى عندما التفتت له جائزة نوبل، أيضاً عرفوا كيف يجدون الطريق للتشكيك في نزاهة الجائزة، والتي وإن كانت لا تخلو من تسييس، فإن هناك غير نجيب محفوظ الكثير من الكتاب العرب، لهم المواقف نفسها، فلِمَ لم تتجه إليهم الجائزة؟ لم يكترث لهذه الأقاويل، وراح يكرس معظم وقته، حتى كلت عيناه وشح نظره، للكتابة فقط، فيما أولئك منصرفون بالكامل لتلبية الدعوات والسفر والعيش، ما أمكن، في الملذات. ومثلما عبرت رواياته عن لحظات أساسية في حياته وفي تاريخ المجتمع المصري، وعكست حداثة فنية وأدبية قلما تعرف عليها القراء العرب عند آخرين من الكتاب، فإن الأفلام والأعمال الدرامية المأخوذة عن هذه الروايات، عبرت بدورها عن حداثة سينمائية وطرحت أسئلة السينما الجديدة، كما يعرفها العالم كله. أفلام مثل (ثرثرة فوق النيل) و(ميرامار) و(اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الثلاثية)، علامات فارقة في تاريخ السينما العربية. سنوات مرت على رحيل صاحب (بداية ونهاية)، لكن أسئلته التي تخص مأزق الوجود، والتي تلامس ارتباك الإنسان المصري والعربي إزاء أحوال كثيرة، ما تزال تشتعل ولا يمكن أن تخبو جذوتها.