النسخة: الورقية - دولي يخطىء «العقل السياسي» الأردني كثيراً إن هو عدّ ما يجري في مدينة معان الجنوبية حدثاً عادياً، أو إن هو قلّل من فداحة ما يجري. كما يخطىء أكثر إن هو «توهّم» أن الأساليب القديمة التي كان يعالج بها أزمات هذه المحافظة الأكثر فقراً وتهميشاً في الأردن قد أثمرت نتائج وحلولاً استراتيجية. فلو أن تلك الأساليب كانت ناجعة، لما رأينا المدينة قد أضحت خلال الأيام الأخيرة أشبه بمدينة أشباح لا تتحرك في أرجائها إلا الآليات العسكرية المدججة بالعسكر والخوف والترقب. ويمكن، إن ظل التجاهل الرسمي سيّدَ الموقف في التعامل مع هذه الأزمة المتفجرة، أن تكون معان الشرارة التي تشعل براميل البارود المبثوثة في أكثر من مدينة وقطاع في الأردن الذي يعيش، منذ فترة، على وقع معزوفة مشروخة تفيد بأن ما يجري في دول الطوق المحيط بالمملكة، من انعدام الأمن، وتفشي القتل اليومي، يجعل التضحية بالإصلاح أمراً مقبولاً ومستساغاً ومتوافَقاً عليه، مرحلياً، من قبل أطراف المعادلة السياسية، بمختلف ألوانها ومرجعياتها. وقد تستفيد تلك «المعزوفة» من حالة الخوف التي تتفشى في أوصال الشعب الأردني، وقد تتغذى، كذلك، من حقيقة الاستقرار الكبير الذي يتـــمتع به البلد، قياساً بالدول المحيطة، لكنّ ذلك، على وجاهته، لا يعني إغفال الملفات القلقة المتصلة بالحزمة الإصلاحية، والانفتاح على التيارات المختلفة، والابتعاد عن ذهنية الإقصاء للمخالفين، فضلاً عن السير في خطة حقيقية، ليس هدفها «الفرقعة» الإعلامية، من أجل فتح ملف التنمية في المحافظات التي يُطلق عليها «الأقل حظاً!» وتحتلّ محافظة معان المرتبة الأولى فيها. أما الملف الذي تتعيّن مقاربته بأدوات خلاّقة وشفّافة ومقنعة فهو ملف الفساد بشقَيه المالي والإداري الذي يكاد يعصف، ليس وحسب بصدقية الحكومة، بل أيضاً بصدقية الحكم نفسه الذي تورط أفراد منه (وليد الكردي، زوج عمة الملك، مثلاً)، من دون أن تكون هناك ملاحقة قانونية مُرضية للرأي العام الذي تساوره شكوك بأن النظام يسعى إلى «الطبطبة» على هذا الملف المحرج، وإيداعه خزائن النسيان! من رحم هذه الإشكالات المعقدة والطويلة، تفجّر العصيان الجديد القديم في المحافظة المنسية في جنوب المملكة القريبة من الحدود السعودية، والتي لا يخلو أي منزل فيها من السلاح، وأحياناً من السلاح الثقيل نسبياً الذي تحوزه جماعات ذات خطاب سلفي جهادي يمثل الداعية محمد الشلبي المكنى بـ «أبي سيّاف» واحداً من رموزه المؤثرين، ليس في الأردن، وإنما لدى الجماعات الإقليمية التي تتبنى الفكر ذاته، وتنتسب إلى المقاربات السياسية والأيديولوجية في محاربة الظلم، ونصرة المستضعفين، ومكافحة الطغيان. وظلت معان، في غالبية المراحل، عصيّة على الاندماج في الدولة، فضلاً عن تراكم الانطباعات بأنها قد تكون منطقة عصيّة على القانون، وهو انطباع له ما يدعمه على الأرض، وقد أثبتته الوقائع الأخيرة من حرق مقار ذات صفة سيادية كمبنى المخابرات والاستخبارات العسكرية، وكذلك فرض الإضراب الذي دعا إليه ناشطون، وتبنته مؤسسات المجتمع، وهذا أمر بالــــغ الدلالة، ويبدو أن الجهاز المفاهيمي للدولة لا يستدخله، ويكتفي بالإجراء العبثي العديم الجدوى، والفقير الخيال، والمتمثل في اعتبار معان «ملفاً أمنياً» من دون أن يحاول ذلك «الجهاز المفاهيمي» أن يخرج من الصندوق، ويجترح حلولاً ذات أثر في الأرض، تقلّص الفجـــــوة بين المجتــــمع والــدولة، وتبدّد الشكوك المستوطنة لدى الأهــــالي الذين سئموا وعود الحكم والحكومة بتأهيل هذه المدينة «المنكوبة»، ودمجها في الفضاء العمومي، ومنحها حصتها الحقيقية من التنمية والمشاريع البناءة التي ينخرط فيها أبناء المحافظة الذين تتفشى البطالة في صفوفهم، ويعانون أحوال فقر مدقع لا ينافســـهم فيه أفراد أي محافظة أخرى من محافظات المملكة الإثنتي عشرة، رغم أن الحكومة «أعلنت» أنها خصصت في موازنتها الأخيرة ما يناهز 100 مليون دولار، لإقامة مشاريع تنموية، العام الحالي، في معان. وإن كان ُرددت أثناء الاحتجاجات التي شهدتها معان شعارات غاضبة ذات نبرة تصعيدية من قبيل «إسقاط النظام» فلا يعني أن الشعار هو رغبة اجتماعية وسياسية ملحة وعاجلة من لدن الأهالي، لكنّ إيراده، وترديده، والتلويح به، يعني تنامي الشعور بأن الأب، بالمعنى التحليلي النفسي، أضحى يزاحم الابن في نطاقه الحيوي، ولا يوليه العناية اللازمة، ما يجعل أمر إطاحته، واحداً من الحلول الخلاصية، التي تحقق الانفصال فالاستقلال، على رغم ما يستبطنه ذلك من ألم...! * كاتب وأكاديمي أردني