×
محافظة المدينة المنورة

افتتاح ملتقى القيادات التربوية بتعليم المدينة

صورة الخبر

قبل أسبوع انعقد في مدينة ساو باولو البرازيلية مؤتمر دولي، مثلت فيه حكومات البرازيل والأرجنتين وفرنسا وغانا وألمانيا والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وتونس وتركيا والولايات المتحدة، ومعها عشرات من الشركات ومنظمات المجتمع المدني وأكاديميون ورجال صناعة. العدد الكلي المشارك بلغ 800، والهدف من المؤتمر البدء في وضع نظام ما «لحوكمة الإنترنت» أو وضع قواعد «عالمية» للتعامل معه، تماما مثل ما تم في التجارة من خلال منظمة التجارة العالمية، وفي المال من خلال صندوق النقد الدولي، والطيران مثل منظمة الطيران المدني. في هذه الأمور تنصاع الدول المختلفة لأحكام وتقاليد لا بد منها؛ لأنه ببساطة لم يعد ممكنا للدول مهما تلفحت برداء السيادة أن تكون المتصرف الوحيد في أمور تخص دولا متعددة؛ وبالتأكيد فإنه لا يمكن ترك القضية كلها للولايات المتحدة لأنه ثبت أنها لم تكن «أمينة» على الأمانة التي في يدها. القصة لها وجهان: أولهما أنه لم يحدث في تاريخ الإنسانية أن وجد اختراع ما وإذا بمليارين من البشر يستخدمونه خلال ما لا يزيد على 25 عاما، ولن نبالغ إذا قلنا إن العالم «الشبكي»، «نت مونديال»، قد غير من التاريخ والتفاعل الإنساني أكثر من أي ابتكار قبله، بما فيها السكك الحديدية والطيران، وأي مما يخطر على البال. وثانيهما أن «الأقوى» و«الأقدر» يستطيعان اختراق هذه الشبكة الهائلة بوسائل تكنولوجية متعددة، وأكثر من ذلك يستطيعان التنصت عليها، واختراق أسرارها من أول الإنسان والأسرار الصناعية وحتى الأمن القومي للدول. فكل المشاركين على الشبكة العنكبوتية ليسوا متساوين، ولا هم يستعملونها من أجل السلام والكرامة البشرية والعدل الاجتماعي. إدوارد سنودن استطاع أن يفضّ عنتَ الشبكة وبراءتها عندما هرب إلى روسيا وبدأ يذيع أسرار تنصت الولايات المتحدة على الشبكة العالمية المكتوبة والمرئية والمسموعة، لا فرق هنا بين مواطنين عاديين، أو رجال صناعة، أو جنرالات دول، أو قيادات في المافيا الدولية أو رؤساء وملوك. ديلما روسيف رئيسة البرازيل بلغ بها الغضب مداه عندما راحت شبكة «ويكيليكس» تذيع رسائلها الإلكترونية، فألغت زيارة كانت تنوي القيام بها للولايات المتحدة، وأكثر من ذلك وقفت على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لا لكي تدين ما فعلته المخابرات الأميركية فقط، وإنما لتدعوا العالم لكي يتخذ موقفا من ضرورة حماية الإنترنت، ليس فقط مما تفعله به الولايات المتحدة، وإنما من كل من يريد العبث به. المسألة هنا لا تخص بلدا بعينه، ولا جنسية بعينها، ولا حتى لغة واحدة، وإنما هي شأن المواطن العالمي الشبكي الذي يتخطى الحدود والقارات والبحار في غمضة عين. هنا تنتقل الرسائل والصور والأرقام والأفلام والأصوات والمعلومات والمعرفة بسرعة الضوء، ومعها تتمدد حرية الإنسان وقدرته على الاختيار والتعبير. كل ذلك بات مهددا بعد ما كشفه سنودن، فالأصل في الأمر أن العالم مقسم إلى دول، وكل دولة ذات سيادة، والسيادة تعني السلطة المطلقة على الإقليم، وإذا كان هناك ما يدعو من فوائد ومصالح مشتركة، فإنه يمكن التنازل عن بعض من هذا برضاء الدولة، وفيما يخص المواطن الشبكي، فإن موافقته ضرورية ولا يمكن الاعتداء عليها أو سرقتها أو التنصت عليها، وإلا فقدت فكرة الحرية والديمقراطية قوامها. وإذا كانت الولايات المتحدة من خلال مشروعها «العدسة» PRISM تستطيع التجسس على كل العالم، فإننا أمام وضع لا يستطيع التطور الإنساني تحمله. ومن هنا كان المؤتمر في ساو باولو، ولكن تشريح المعضلة لا يعني حلها، وهناك من الدول من يتربص لكي يجعل الإنترنت وكافة مشتقاته من أدوات التواصل الاجتماعي مسألة سيادية تخص كل دولة على حدة، ومن ثم من شأن «السلطة» المطلقة في دول استبدادية. ولكن هناك وجهة نظر مقابلة ربما كان أفضل من عبّر عنها الدكتور إسماعيل سراج الدين رئيس مكتبة الإسكندرية ونائب رئيس البنك الدولي الأسبق، في ورقة تحت عنوان «Do Not Mess With Imperfection» أو لا تعبثوا بالكمال «الناقص». المسألة ببساطة هي أن الكمال لله وحده، أما الإنسان، وما جاء معه من قوانين ونظم وابتكارات فهي كلها منظومات ناقصة، ومن ثم فإن الجهد يكون دوما من أجل استكمال ما نقص، فإذا ما جرى تولد نقص وعجز آخر يحفز البشر على تجاوزه. «الإنترنت» ليس استثناء من أي نشاط بشري آخر، فما فيه من نقائص ونقاط ضعف حينما يستخدم للتشهير، أو يجري من خلاله التجسس، أو تعرض فيه أفلام إباحية، فإن ذلك جزء من منظومته كلها، وإذا حدث عبث بهذه المنظومة فربما يؤدي إلى انهيارها أو القضاء على العائد منها وهو هائل وخطير. تعالوا نتخيل العيش من دون الإنترنت الآن، وكيف تكون حياة البشر وتعاملاتهم وتفاعلاتهم في المؤسسات والمصانع وعمليات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وتبادل القيم والثقافات الإنسانية، ما هو فيها رفيع، وما هو سوقي. هل يمكن وضع إطار كما هدف المجتمعون في البرازيل لحماية الإنترنت من العبث؟ وهل يمكن للولايات المتحدة أن تتنازل عن برنامجها للتجسس الذي يجري تحت رعاية وكالة الأمن القومي؟ قيل إنه تقدم إلى المؤتمر قرابة 187 اقتراحا لم يعرف بعد إلى أي مدى تذهب. وهل سيحدث هذه المرة ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية إن كان الإطار هو الأمم المتحدة، وهذه أعطت سلطة الحرب والسلام لمجلس الأمن، وفي هذا كان لخمس دول فقط حق «الفيتو»، فيكون لدول بعينها متقدمة تكنولوجيا ما لا يكون حقا لغيرها؟ المدهش في الموضوع أن رئيسة البرازيل نظمت المؤتمر في ساو باولو بالمشاركة مع منظمة «آيكان» ICANN وهي مؤسسة معنية بإعطاء الأسماء لمستخدمي الإنترنت (Org، Com gov..)؛ ورغم أن المنظمة تعتبر نفسها عالمية مستقلة عن الدول، فإنه لا يمكن تجاهل وجودها في كاليفورنيا بالولايات المتحدة. ولكن أيا كان الأمر، فقد فتح باب البحث والتنقيب، وهناك مؤتمر آخر سوف يعقد في الخريف، وباتساع العالم سوف تعقد المنتديات وورش العمل، وتؤلف الكتب، فقد كان هذا هو الحال مع كل القضايا العالمية التي تشابكت وتعقدت فيها مقتضيات عملية وأخلاقية. وفي كل الأحوال فقد أصبح الإنترنت واقعا يستحيل الخلاص منه، وهو يتطور من آلات ضخمة إلى الكومبيوتر الشخصي، إلى الألواح إلى التليفون في قبضة اليد، حيث تأتي الرسائل وتذهب. الجهد الإنساني للبحث عن الكمال سوف يظل دائما، وربما يكون سبيلا لحل معضلات كبرى.