بترانيم أطراف أصابعه الملطخة بالألوان، جالت مشاهد الفيلم تلقاء مراحل من حياته في متحفه بمدينة المحرق، ولعل من بين لقاءات أصدقائه وهم يتحدثون عنه، بدت دموع صديقه عبدالعزيز اليحيى التي حاول كبح جماحها وكأن تريد أن تقول: «رحل الفنان البحريني العربي الكبير راشد العريفي، لكن إرثه الفني والثقافي والتراثي سيبقى كعلامة بارزة في تاريخ البحرين». وفي الفيلم الوثائقي ذاته، كانت المشاهد المتعددة المواقع للفنان العريفي تعيد إلى أذهان ذويه ومحبيه وتلاميذه ومريديه، كيف كان يحب الحياة وينشر ثقافة حب الحياة والإنسانية والحوار والإبداع بألوانه التي ما عرفت كثيراً الفرشاة، بل عرفت أطراف أصابعه، ليستحضر المشاركون في لقاء التأبين الذي أقامته عائلتا العريفي وبن دينة مساء أمس (السبت 29 أبريل نيسان 2017) بمركز عيسى الثقافي، حروف الإبداع وتلاوين الهوية والحضارة. مكانة تميز بها الراحل وبين صوته في التعليق على مشاهد الفيلم، وعرافته في لقاء التأبين، مهد الإعلامي والفنان عبدالله يوسف طرقات اللون والحرف والمحبة لهذه القامة البحرينية التي شاركت وأعطت من جهدها لانطلاق مسيرة الفن التشكيلي في مملكة البحرين منذ تأسيس جمعية البحرين للفن العاصر في سبعينيات القرن الماضي، واتجاهه لتأسيس أول متحف ديلموني بمدينة المحرق، لتتزاحم مسيرة العطاء، وفي هذا، يتحدث مبارك بن دينة في كلمة بالنيابة عن عائلتي العريفي وبن دينة ليعبر عن الاعتزاز والتقدير للحضور الذين لبوا الدعوة، وفي ذلك دلالة على المكانة التي تميز بها الراحل في سيرته الفنية التي أثرت الحركة الثقافية في البحرين، وأن العائلتين، تعتزان بهذا الحضور الذي يمثل بصدق صورة لمحبة إنسان عشق البحرين فأبدع في إخلاصه وفنه للبحرين. مؤسسة راشد العريفي ولعل «بيكاسو» بين أصدقائه المقربين، أكثر من مجرد فنان، فالكاتب إبراهيم بشمي، يتحدث في كلمة «الأصدقاء» ليلفت النظر إلى أنه وبعض الأصدقاء كانوا يستخدمون عبارة: «سنذهب إلى بيكاسو... عدنا من متحف بيكاسو» للإشارة إلى الفنان العريفي، وكما هو الحال في السفر، حين نجد بضع مواقع بأسماء فنانين كبار من المشاهير، وكما أسس العريفي أول متحف، فإن بشمي يقترح إنشاء «مؤسسة راشد العريفي الثقافية والفنية» لخلق مساحة من الأجواء الثقافية والفنية التي تمثل ما يسمى بالـ «قوة الناعمة»، ذلك أن العريفي كان يمثل بالفعل قوة ناعمة قادرة على التأثير، وهناك العديد من الفنانين في البحرين يمثلون قوة ناعمة، وكما كان في عهد الزعيم جمال عبدالناصر الذي أحبه الراحل العريفي فنانون يمثلون قوة ناعمة من الفنانين كأم كلثوم وعبدالحليم حافظ والكتاب أمثال محمد حسنين هيكل فهو يمثل تلك المرتبة، متمنياً ألا يقام حفل تأبين في العام الماضي للوداع وحسب، بل للاحتفال بإنشاء مؤسسة راشد العريفي الثقافية والفنية. أوركسترا... تتناقلها الأجيال «ولأن الموت رحيل أبدي، فإن ما قدمه الفرد في حياته من عطاء يبقى (أوركسترا جميلة) تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل»... فهكذا رأى رئيس جمعية البحرين للفن المعاصر الفنان عبدالكريم العريض في كلمة الجمعية دور الفنان، وتحديداً الراحل العريفي، في مسيرة الحركة التشكيلية، ولأنه رافقه في مراحل تلك المسيرة، فإنه عايش الجوانب الإنسانية والنشاط الاجتماعي في بناء التجربة الفريدة للفرد، حتى جاءت تجربته متواكبة مع تشكيل جمعية البحرين للفن المعاصر الذي ساهم في تأسيسها مع عدد من الفنان، ووضعت في أطار عملها مختلف القضايا ومنها تطوير مستوى الفن والفنانين، والسعي الكثيف لترسيخ القيمة الثقافية والتراثية والحفاظ على الهوية الفنية العربية والإسلامية ولاسيما من بوابة «البيئة والتراث في الفن المعاصر» كما أحب الراحل دائماً، وعلى الصعيد ذاته، قدم رئيس جمعية البحرين للفنون التشكيلية الفنان علي المحميد كلمة الجمعية مستهلاً بالتعبير عن الاعتزاز بإنسان وصديق وأستاذ عاصرت معه الحركة التشكيلية وربطتني به علاقة أهل وأخوة وصداقة، بل إن «أحفادي من العريفي»، ما يعني أن اجتماع الأحبة هنا هو أكبر تعبير عن المحبة للفنان الراحل التي ستبقى لوحاته ماثلة في حياتنا وكلما رأيناه قلنا: «رحمك الله يا راشد العريفي». بين التجارب والمعارف ويذهب رئيس أسرة الأدباء والكتاب الشاعر إبراهيم بوهندي إلى أجواء الأدب والنثر والشعر والنص الجمالي ليتحدث عن فنان رائد مبدع في استحضار التراث الحضاري لهذا الوطن من خلال التماثيل والأختام الديلمونية، غير أنه خاطب الحضور بالقول إن شرف الوقوف في هذا اللقاء أمام هذا الجمع لا يعتبره تأبيناً، وإنما وفاءً لابن عزيز من أبناء البحرين، فهناك شخصيات ماثلة في ذاكرتنا تنقلنا لنشاهد الأحداث والأزمنة المختلفة، فتمر علينا التجارب العملية والمعرفية، والعريفي هو أحد تلك الشخصيات، ما يجعلنا نأمل أن يحظى بتكريم يليق بمكانته وعطائه وسيرته، ولربما كانت الكلمات الرثائية التي انطلقت على لسان الكاتب حمد الشهابي بعثت في الحضور مشاعر ذات همسات خاصة، إلا أن الرثاء بالوفاء والتقدير هو الأبقى، ولاسيما أن كلمة الأصدقاء سبقت المرثية ليتحدث صديقه الباحث الأكاديمي عبدالله عبدالرحمن يتيم ليعود إلى السنة الثالثة من عمره حيث كان يسير مع شقيقته ورآه أول مرة، واستمرت تلك العلاقة حتى المرحلة الثانوية حيث كان للفنان العريفي الفضل في نقل الثقافة العالمية لنا كطلبة في المرحلة الثانوية بمدرسة الهداية الخليفية، وكان مما نتذكره أنه أحضر جهاز «غرامافون» لنسمع الموسيقى حيث عرفنا على أسماء كبيرة من الموسيقيين والرسامين العالمين، ومن خلاله عرفنا الفنون، ثم تناول مقاطع من دراسة مطولة أجراها حول سيرة الفنان راشد العريفي الذي دون شك، بغيابه، فقدت البحرين قطباً ممن كان له إسهام طليعي في عالم الفنون.