جون بليندار لا شك أن تفعيل المادة 50 من اتفاقية لشبونة، وبدء التفاوض حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة. ولعل أهم القضايا التي تفاوض عليها لندن هي امتيازات التحكم بالهجرة من دون الإضرار بعلاقات التجارة مع الاتحاد باعتباره سوق صادراتها الأهم، والمحافظة على دور لندن كمركز عالمي للخدمات المالية والمصرفية.والمؤكد أن عامين من المفاوضات الشاقة والمعقدة حول «فاتورة الطلاق» ومستقبل العلاقات التجارية بين بريطانيا و27 دولة عضو في الاتحاد، ستكون عملية متشابكة، وتنطوي على مخاطر حقيقية بالفشل الذريع. والمؤكد أيضاً أن أسواق المال سوف تبقى أسيرة لما تسفر عنه كل خطوة تفاوضية من جزر ومد، إلا أن الخطوة ليس لها حتى الآن تبعات مباشرة على الأسواق، وربما تكون ردة فعل الأسهم أقل بكثير مما هو متوقع في إطار التجربة التاريخية. بداية، اتخذ المستثمرون الأوضاع الاحترازية لما تمليه فرضية «الطلاق التعسفي»، الذي يعني تعامل بريطانيا مع الدول السبع والعشرين بموجب قوانين منظمة التجارة العالمية. كما أخذوا بعين الاعتبار الأضرار التي قد يتعرض لها القطاع المصرفي البريطاني في حال فقدان البنوك امتيازات الدخول والخروج إلى دول الاتحاد، كما أن الأسهم البريطانية فكت ارتباطها مع الاقتصاد البريطاني. فالشركات البريطانية تحقق نسبة 70% من عائداتها من خارج بريطانيا؛ لذلك فإن تأثير الجغرافيا في أدائها بات محدوداً، وساعد تراجع قيمة الجنيه الإسترليني بعد الاستفتاء في تعزيز القيمة الفعلية لأرباحها. وخارج هذا الإطار سوف تبقى الشركات تحت تأثير سير المفاوضات. لكننا الآن نمر بمرحلة إنعاش مبرمج في الاقتصاد العالمي أسفر عن انتعاش لم ينضج بعد. صحيح أن التفاوض رحلة إلى المجهول، لكنه فرصة نادرة على أرضية اقتصادية صلبة لتفعيل المادة 50. فهذه المرحلة تمتاز بأن الجنيه الأضعف منح فرصة ذهبية لصناع القرار لتحقيق التوازن للاقتصاد البريطاني بعيداً عن النمو الذي يحفزه الإنفاق الاستهلاكي المعزز بالقروض. وبينما يجري الحديث عن اعتصار يتعرض له الدخل الحقيقي للأسر البريطانية بسبب ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ضعف الجنيه، فلاتزال آثار الانفصال غير بادية على تلك الأسر، ولاتزال أسعار البيوت تسجل زيادات مطردة وإن كانت بمعدلات أقل. وهذا يعني أن الاقتصاد البريطاني لم يتعرض لتقلبات حتى الآن. وفيما يتعلق بلندن لا بد أن تخسر جزءاً من حصتها من سوق الخدمات المالية العالمي لصالح منطقة اليورو.لكنها لن تخسر المزايا الخاصة التي تختص بها المؤسسات الكبرى، والتي خوّلتها تصدر المدن الأوروبية في هذا المجال.وقد ينطوي التقلص أيضاً على ميزات إيجابية. ويشعر الزعماء الأوروبيون باللهفة لنقل عمليات تسوية الأوراق المالية من لندن إلى غيرها من مدن منطقة اليورو. وبما أن هيئات التنظيم كانت توجه الأنشطة الاقتصادية بعيداً عن صفقات الأسواق الفورية نحو بيوت المقاصة المنظمة، فقد باتت هذه المؤسسات أكبر من أن تتعرض للفشل، وهذا يعني أنه في حال انتقلت الأنشطة خارج لندن، فسوف يصبح الاقتصاد البريطاني أقل عرضة لخطر الأزمات المالية. إلا أن هناك قطاعاً بريطانياً واحداً سوف يتأثر بالعامل الجغرافي، وهو يلعب دور الملاذ الآمن للاستثمارات العالمي، إنه سوق العقارات التجارية. فهل تأثر دوره فعلاً بالانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي؟ الحقيقة أن قيم رأس المال في القطاع العقاري اهتزت بعد الاستفتاء، لكنها استقرت ثانية في أواخر الخريف، ومع ذلك حافظ معدل العائد على الاستثمار في العقارات التجارية لكامل عام 2016 على إيجابيته عند 3.9%؛ لأن تراجع حجم الاستثمارات في القطاع تم تعويضه من الارتفاع القوي في معدلات الإيجار.ولايزال من غير الواضح مدى تأثر جاذبية سوق المكاتب الذي يعتبر الملاذ التقليدي. وتتوقع شركة «جون لينغ لاسال» تراجعاً في معدلات إيجار مكاتب الشريحة الممتازة في بريطانيا خلال عام 2017 حتى عام 2021.أما فيما يتعلق باستقرار العملة البريطانية فلا مبرر للقلق.فعندما يسحب البنك المركزي الأوروبي برنامج التيسير الكمي، لا بد أن يحلق اليورو الذي يقيّم حالياً بمعدلات منخفضة، ما يقلص الضغوط على الجنيه الإسترليني. وباختصار عندما تكون الضبابية سيدة الموقف تصبح المناورة أفضل ملاذ لفعاليات السوق. * محلل في فاينانشال تايمز