الأكاديمي والمترجم العراقي أحمد خالص الشعلان إلى المطبعة روايته "بعقوبيون"، الكتاب الأول من عمله السردي "ثلاثية بعقوبة" الذي يأتي ضمن مشروع أدبي من مجموعتين روائيتين ورواية منفردة تنتظر جميعها النشر، عكف عليه بعد عقود من الترجمة والتدريس والنقد الأدبي، سعياً لتأسيس إرث ثقافي يؤرخ لتحولات العراق سرداً، ويغني المكتبة العربية بإسهامات إبداعية نوعية في المبنى والمعنى. احتفاء بالمكان تنتمي "ثلاثية بعقوبة" إلى صنف الرواية التاريخية التي تمزج الواقع بالخيال، هذا ما ذهب إليه الشعلان، في حديثه لـ"العرب" حول مجمل مشروعه المعرفي، وقضايا النقد والترجمة وقراءته لواقع الثقافة العربية، موضحاً أن الثلاثية تسجيل لأربعة عقود من تاريخ مدينة بعقوبة العراقية، فهي موئل الصبا وحضورها عميق في وجدانه. يضيف "التاريخ أغلبه ظن أما ما تبقّى فهو من إملاء الهوى، كما يقول هيغل، ولا أحد منّا يحتفظ بذاكرة مثالية، فأحداث الرواية أغلبها ظن، ولا بدّ إذن أن يغدو ما تبقى هوى تمليه ضرورات الفن”، مؤكداً أن شخوص الرواية كلهم تقريباً حقيقيون بتركيبة سيميائية سردية، بعضهم ظهر باسمه وآخرون حُرّفت أسماؤهم احتراماً للخصوصية. ويدعو الكاتب العراقي قراءه إلى أخذ أحداث روايته الطويلة على أنها "حلم وخيال"، فهذا يضمن لهم متعة القراءة التي تحتاج -حسب رأيه- إلى صبر بسبب حجم السرد ومفارقاته والتداخل البنيوي في الثيمات والشخوص. "ثلاثية بعقوبة" احتفاء سردي بالمكان يعكس حنين الكاتب إلى مدينته التي غادرها تحت تهديد جماعة متطرفة رأته مارقاً لأنه يدرّس الإنكليزية التي تعتبرها هذه الجماعة “لغة الكفار”. وتبعث هذه النوستالجيا الإنسانية برسالة جمالية ومعرفية يجترحها الروائي عبر محاكاة سيميائية ورمزية الأمكنة. يقول الشعلان “في قراءتي للسرد في بلاد الرافدين خلال عقود كنت أؤاخذ الروائي العراقي على عدم اهتمامه السيميائي الكافي بالمكان المحلي، إذ يظنّ بعض الكتّاب واهمين أن عدم الانشغال بدلالات المكان ينقلهم من الخاص إلى العام، في حين أن العام لا يمكن الوصول إليه إلا بالمزيد من الخاص. لذا فكتب "ثلاثية بعقوبة" جميعها من "بعقوبيون" إلى ‘وللحب قرابين‘ وحتى ‘لوعة الصبايا‘، التي ستصدر تباعاً، مخصصة لمدينة البرتقال بعقوبة وفيها سرد مستفيض لسيميائية المكان".الكاتب يقارب في مجمل مشروعه السردي عناصر المكان والزمان والإنسان معتمدا الاستنطاق الأدبي والتأويل السيميائي ويقارب الشعلان في مجمل مشروعه السردي عناصر المكان والزمان والإنسان معتمداً الاستنطاق الأدبي المستند إلى التأويل السيميائي وسيل المشاعر، وتحضر بعقوبة كمدينة ومعنى ودلالة في صلب البنية السردية لأعماله عبر الاستعادة التاريخية المتحسسة للجغرافيا والتدفق الوجداني المبثوث في ثنايا السرد. يعتمد ضيفنا في أسلوبه رؤية سردية داخلية – خارجية، تتداخل فيها معرفته مع معارف شخصياته. كما يخوض تجربة تداعي الذاكرة في تناول سيميائية المكان عبر اعتماده تقنية “تيار الوعي” في روايته “وصدقت جدتي”، الكتاب الثاني من سلسلته “خماسية السخط” المعدّة للنشر، من خلال تعشيق حوار داخلي يوازي السرد التقليدي لتمثيل الأفكار المنسابة، فتتداخل المشاعر المتدفقة في النص في شكل سيل ذهني وعاطفي. ويعتقد ضيفنا أن للسرد وظيفة تنويرية تسهم في معالجة القصور المعرفي لدى مجتمعات المنطقة، فمثلما توسّع الرواية آفاق الخيال للأفراد يساهم الثراء اللغوي في تنمية “العقل الثقافي” للمجتمع. الجندي المجهول صدر للشعلان، علاوة على رواياته، عدد من الترجمات منها ترجمة كتاب “علم الجمال” للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وكتاب “مقالات في علم الجمال والأخلاق”. ويشير الكاتب إلى أن السرد، كما الترجمة والتشكيل والموسيقى، وسيلة من وسائل بلورة الخبرة الجمالية للفرد. احتفاء سردي بالمكان ويضيف “لا يمكن اكتساب الوعي الجمالي من دون التمرين الشعوري الذي يحتاج إلى تربية جمالية تشارك فيها وسائل التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة، والتنشئة الثقافية كالكتاب والرواية واللوحة والنغم والمسرح بحيث يبدأ الفرد بفلسفة إحساسه الجمالي وتحويله إلى ما نسميه تقنياً ‘ذائقة’ وهي من مقولات فلسفة علم الجمال”. كما صدرت للكاتب ترجمة “الجنس الأدبي” لمؤلفته البريطانية هذر ديوبرو، وكتاب “محاكاة جديدة: شكسبير وتمثّله للواقع”، وترجمة روايتين من الأدب الكردي المعاصر؛ “مريم” للعربية، و”گولستان” للإنكليزية. ويرى الشعلان أن للترجمة الأدبية دورا كبيرا وحاسما في التثاقف الحضاري، واصفاً المترجمين بأنهم “جنود مجهولون بادروا منذ فجر التاريخ المدوّن إلى ترجمة الآداب من لغة إلى أخرى في مسعى لنشر بذور التلاقح الثقافي بين الأمم”، إذ يعتبر الترجمة أداة لنقل وتوطين المعرفة الإنسانية في العالم وصناعة الهوية الكونية للمجتمعات. ومثلما يرى نقاد أن الرواية جاءت من التاريخ وحكايات الأسفار والمغامرات يعتقد أحمد الشعلان أن الترجمة وفرت حالة من التواصل السردي التاريخي والجغرافي العالمي، متسائلاً “أكان ممكناً نشوء حضارات وسط العراق القديم وشماله لولا ترجمة الإرث السومري؟ ذلك الإرث الذي انتقل بالترجمة إلى اليونان لتنشأ الحضارة الإغريقية، ثم مهّد لنشوء الحضارتين الإسلامية والأوروبية؛ فترجمة إرث بلاد ما بين النهرين لغةً وروحاً فتحت الأبواب لمغادرة العالم عتمة القرون الوسطى”. وتشترك الترجمة مع السرد في وظيفتهما الاتصالية؛ نقل المعلومات والأفكار والعواطف من مرسل إلى متلق، كما يرى الشعلان، الذي يشير إلى أن هناك علاقة عضوية بين السرد وحقول المعرفة، ومنها الترجمة، مبيّناً أن “ثمة نظرية في الخطاب اللغوي تقول إن كل أدبيات العلوم والفنون هي نوع من السرد، فالتاريخ سرد، والكيمياء والاقتصاد والفلسفة سرد، والتشكيل والشعر والموسيقى سرد”. ويعتبر المترجم العراقي الترجمة رافداً تاريخياً لنشوء ونمو الفن الروائي وتوارث وتناقل السرديات موضحاً أن نسبية الترجمة وقابلية النصوص للتأويل الترجمي المتعدد كانتا من أسباب التنوع في الأدبيات الأسطورية (الميثولوجيا الدينية) للأقوام التي نقلت عن اللغة السومرية. وبفعل هذه التعددية الثقافية التي أفرزتها الترجمة كان المترجم، بحسب الشعلان، من حيث لا يدري يمدّ المعرفة الإنسانية بأسباب التنويع والابتكار والتطور في الوعي والسرد والخطاب والحركة الجدلية. ويخطط الشعلان لمشروع ترجمي موسوعي بالتوازي مع مشروعه السردي، بعنوان “كلاسيكيات نظرية الأخلاق والسياسة”، تتويجاً لما بناه خلال مسيرته العلمية والمهنية من ذخيرة وخبرات بحثية ولغوية، فبين السرد والترجمة مشتركات أدبية ومفاهيمية وأسلوبية، كلاهما يهدف إلى خلق ذاكرة تشاركية بين الثقافات.