أغلب دول الاتحاد الأوروبي تبدو عازمة على أن ينطلق قطار الاندماج دون انتظار أحد، فمن شاء فليركب ومن شاء فليبق خارج الركب.العرب سلام سرحان [نُشر في 2017/03/15، العدد: 10572، ص(10)] فجرت القمة الأوروبية الأخيرة أكبر تحول سياسي يمكن أن يعيد رسم خارطة العالم، حين ناقش زعماء الاتحاد الأوروبي تسريع خطوات اندماج الدول الأعضاء الـ27 والذي يمكن أن يؤدي إلى قيام كيان سياسي هو بمثابة دولة الولايات المتحدة الأوروبية. ورغم الانقسام بشأن التقارب الاندماجي بين بلدان الاتحاد في إطار مشروع “أوروبا متعددة السرعات” الذي يقضي بتسريع التقارب في السياسات بسرعات متفاوتة بين بلدان الاتحاد، إلا أن العقبة الأساسية أمام الاندماج الأوروبي زالت بتصويت البريطانيين للانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن القوى الأوروبية الكبرى صحت أخيرا من صدمة البريكست لتفتش عمّا يمكن أن ينعكس إيجابا على وضع الاتحاد الأوروبي. وتعود نداءات الاندماج الأوروبي إلى سنوات طويلة، وخاصة بعد انفجار أزمة الديون عام 2011، التي فرضت برامج إنقاذ لليونان وأيرلندا والبرتغال ولاحقا لقبرص. وفرضت معالجة الأزمة تقريب السياسات والاقتراب من الاتحاد المصرفي. لكن جميع الدعـوات كـانت تواجه مقـاومة شديدة من قبل بريطانيا المعارضة بشكل حاد لخطوات التقارب والاندماج الأوروبية. أما اليوم وفي ظل اقتراب بريطانيا من تقديم طلب الطلاق التام مع الاتحاد الأوروبي خلال أيام قليلة، فسوف يصبح الطريق سالكا لتسريع خطوات الاندماج، خاصة أن الدول الأوروبية تخشى من تصاعد المد الشعبوي. ويبدو أن أوروبا أصبحت مجبرة على الهروب إلى الأمام لإغلاق الأبواب أمام احتمالات تفكك الاتحاد الأوروبي، ولذلك بدأت بالبحث عن سبل الدخول في طريق اللاعودة بزيادة التقارب الذي يجعلها بمثابة كيان سياسي واحد. وتتركز النقاشات حاليا حول مستقبل أوروبا بعد خروج بريطانيا. ويفترض أن تفضي إلى بيان رسمي في روما في 25 مارس بمناسبة الذكرى السنوية الستين للمعاهدة التأسيسية للاتحاد الأوروبي. ويبحث الزعماء الأوروبيون حاليا سبل الاتفاق على العناصر الأساسية في ذلك الإعلان التاريخي دون إثارة خلافات كبيرة. ويتعلق الأمر بعبارات حساسة مثل الوحدة وتعزيز ترابط بلدان الاتحاد والسرعات المتباينة للاندماج. وتقترح وثيقة عمل عرضت يوم الجمعة الماضي على زعماء 27 دولة “العمل معا لتعزيز المصلحة المشتركة وإفساح المجال أمام البعض بالتقارب والمضي بشكل أسرع في بعض المجالات”. ويعني ذلك فتح الباب أمام الراغبين بتعزيز التقارب ودمج السياسات، وترك المترددين جانبا ليختاروا بأنفسهم سرعة الانصهار في كيان سياسي أوروبي، كي لا يعرقلوا عزم الراغبين بالاندماج. وتسعى الصياغة الحذرة إلى عدم إثارة حساسيات أي من الدول الأعضاء. وتدفع باريس وبرلين بشكل متزايد باتجاه أوروبا تعمل “بسرعات متفاوتة” حتى لا تعرقلها معارضة بعض الدول، مثلا فيما يتعلق بتعزيز الدفاع الأوروبي. لكنّ دولا أخرى تشعر بالقلق من أن تصبح أعضاء من الدرجة الثانية مثل المجر وجمهورية تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا، وقد تسارع لاحقا للحاق بقطار الوحدة الأوروبية حين ينطلق مسرعا بلا عوائق. ويبدو أن معارضة بولندا لإعادة انتخاب رئيس وزرائها السابق دونالد توسك على رأس مجلس أوروبا في صلب تلك المعادلة باعتبار توسك من أشد المتحمّسين للاندماج الأوروبي، في حين أن الحكومة البولندية من أبرز المعرقلين. ورغم معارضة وارسو أعيد انتخاب توسك بغالبية ساحقة الخميس بتأييد 26 صوتا في مقابل صوت واحد، ليعطي ذلك زخما إضافيا لخطوات الاندماج الأوروبي. ويبدو أن أوروبا التي تعرضت لضربات شديدة خلال الأزمة المالية وتلقت ضربة البريكست القاسية، قد تصحو لتجد أن تصويت البريطانيين للانفصال مهد الطريق للاندماج أكثر. لن تجد دول الاتحاد الأوروبي سبيلا للهروب من الأخطار سوى بمزيد من التقارب، وقد أصبح الحديث صريحا عن قيام كيان سياسي، سيكون بمثابة اتحاد كونفدرالي وسيأخذ في نهاية المطاف شكل الولايات المتحدة الأوروبية عاجلا أم آجلا. ورب ضارة نافعة، فقطار الاندماج الأوروبي ما كان لينطلق لولا الأزمات وأبرزها البريكست البريطاني وكذلك وصول دونالد ترامب بسياساته الشعبوية إلى البيت الأبيض. توسّل الفقراء للاتحاد مع الأغنياء أمر منطقي ومتوقع، لكن أن تأتي النداءات من الدول الغنية وخاصة ألمانيا فذلك أمر آخر. فالبلدان الغنية كانت حتى وقت قريب ترفض ذلك الخيار، لكنها وجدت نفسها مجبرة على القبول به، لأن البديل هو دمار اقتصاد أوروبا بل ودمار الاقتصاد العالمي. لذلك فالخيار الوحيد أمام أوروبا، هو الهروب إلى الأمام وتحقيق الاتحاد المالي والعسكري، الذي سيجعل الاتحاد السياسي نتيجة حتمية. هذا الخيار، سيحتاج إلى الكثير من الضوابط والقواعد الصارمة، ولكن ما أن تتحرك عجلة الاندماج الأوروبي، التي بدأت بخطوات الاتحاد المصرفي والمالي، حتى تصبح أوروبا أكبر اقتصاد في العالم، وستتمكن حينها ببساطة من طي صفحة الأزمة المالية، وردع أي مضارب في الأسواق يمكن أن يخطر بباله تحدي تلك القوة الاقتصادية الهائلة. إذا مضت بعض الدول وبينها أكبر اقتصادات أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا في طريق الاندماج بالسرعة القصوى فستجد البلدان الأخرى نفسها مجبرة على اللحاق بها كي لا تجد نفسها متخلفة عن الركب وربما خارج الاتحاد الأوروبي. حين ينصهر فريق المتحمّسين للاندماج ستزول الفوارق الاقتصادية بين الدول وسيكون ذلك الكيان قادرا على مواجهة أي أخطار اقتصادية حين تتوحد سندات جميع تلك الدول في سندات أوروبية واحدة ولن يجرؤ المضاربون في الأسواق على تحدي تلك القوة المالية الجبارة. في الماضي كانت هناك نداءات لترك بريطانيا خارج خطوات الاندماج، لكن لندن تمكنت من دحرها وعرقلة الاندماج الأوروبي. لكن يبدو أن أوروبا تعلمت درس البريكست جيّدا ولن تسمح بعد اليوم لأي دولة مشاكسة من منع انطلاق القطار. أصبحت أغلب الدول الأوروبية على قناعة بضرورة عدم انتظار ركوب الجميع في القطار والغرق في المناكفات والمشاكسات التي منعت انطلاقه سابقا وقد تمنعه إلى الأبد. وهي تبدو عازمة على أن ينطلق قطار الاندماج دون انتظار أحد، فمن شاء فليركب ومن شاء فليبق خارج الركب. لا يمكن لأي كلمات أن تصف أهمية اندماج ما يصل إلى 23 دولة في كيان سياسي واحد. ومن المرجح أن تسقط الدول المشاكسة اعتراضاتها لتلتحق بالركب المستعد للمغادرة بدونها لتشكيل أكبر اقتصاد في العالم يضم ما يصل إلى 500 مليون نسمة. وفي سيناريو غير مستبعد قد لا تقوى بريطانيا على آلام البريكست حين تقترب اسكتلندا وأيرلندا الشمالية من الانفصال وتبدأ الكثير من المصارف والشركات بمغادرة البلاد. وقد تندم على البريكست بعد فوات الأوان وانطلاق قطار الاندماج الأوروبي. كاتب عراقيسلام سرحان