يتخلى البعْض بإصرار عجيب عن سماته الإنسانيَّة، وعن قيمه وأخلاقه التي رفعت شأنه ومكانه، ويأبى إلا أن ينحدر بشوق إلى المستوى الأدنى الذي يَرَى أن فيه ما يشبع شهواته الحيوانية، هذه الحال البشعة التي ارتضاها البعْض لنفسه تختلف تمامًا عن حال الإنسان الذي أكرمه الله بجملة من السِّمات والخصائص المميّزة التي أكسبته صفته الإنسانيَّة الرفيعة بقيمها وأخلاقها، التي تُعدُّ الحاكمة والمرجع للعلاقات بين الناس، حيث تنضبط تلك العلاقات وتنتظم وفق أطر سامية شرعيَّة وقيمية، بحيث لا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يتطاول على غيره مهما كانت المُسوِّغات، ولا ينتهك حقوقه المادِّية ولا المعنوية. يكتسب الإنسان صفة السواء النفسي والأخلاقي بناءً على مدى التزامه بالأطر الشرعيَّة والقيمية التي توافق أفراد المجتمع على قبولها باعتبارها المرجع الرئيس والمصدر الذي تستمد منه المؤسسات التربويَّة توجهاتها وأساليبها في التنشئة الاجتماعيَّة، فالأسرة والمدرسة وغيرهما من مؤسسات التَّربية تجتهد في تمكين الناشئة من استيعاب المعطيات التي تكسبهم صفة السواء، ليس على المستوى المعرفي فقط، بل إلى ما أهم من ذلك وأبعد، أعني المستوى الوجداني والتطبيقي لتلك المعطيات، حيث تفقد المعارف قيمها ومعانيها إذا لم تترجم وتَتحوَّل إلى سلوكات ملتزمة، سلوكات ينسجم فيها القول مع العمل، فالقول الجميل المنمّق بعبارات المدح والثناء الذي يطلق من طرف اللِّسان لا قيمة له إذا لم ينسجم ويتوافق مع العمل مع السلوك لكونهما بمثابة الدَّليل المحسوس على صدق القول من عدمه. كثيرون أؤلئك الذين يعرفون بشاعة الغيبة، ووزر النميمة، وعظم البهتان، وغيرها من مصطلحات التعدي الماديّ والمَعْنويّ على الآخر، ومع ذلك لا يتورَّع من رضي لنفسه التخلي عن قيمه الإنسانيَّة أن يضرب عرض الحائط بِكلِّ ما يعرفه عن مساوئ تلك المصطلحات، وخطورة التَّحلِّي بها، وأن ينحدر إلى المستوى الحيواني بممارسات بشعة يغرق فيها إلى أذنيه، حيث لا يهدأ له بالٌ، ولا يقرّ له قرار حتَّى يمارسها، هذا الصنف من أشباه البشر لا يهنأ حتَّى يأكل من لحم أخوانه، هذا الصنف البغيض الناشز عن بني البشر، يتلذّذ بالغيبة والنميمة، يفرح جدًا وهو يستمع إلى خبر غير سار عن زميل أو صديق، وإن لم يجد ما يبهجه بمثل هذه الأخبار يتعمَّد صناعة أخبار مكذوبة، المهم عنده تغْذية شهوته بالتلذّذ بإيذاء الآخرين والنيل من سيرهم. هذا البغيض يتَحوَّلَ إلى آلة تسجيل، وإلى آذان صاغية مصغية يتتبع الأخبار ويلتقطها وبأدق التفاصيل، فإذا لم ترق الأخبار إلى ما يتطلَّع إليه ويتوافق مع شهوة الإيذاء التي يتطلَّع إليها ويطرب لها، تعمَّد صناعة موقف أو خبر يطلقه في جمع من النَّاس حتَّى يضمن أن يتناقله المغرمون من أمثاله الذين تسعدهم الأخبار السيِّئة المسيئة حتَّى وإن كانت كذبًا وبهتانًا. المتواتر عن هؤلاء المولعين بالولوغ في أعراض إخوانهم وسيرهم أن حالتهم تشبه حالة المصاب بمرض الفصام (الشيزوفرينيا)، حيث يغمرك عند اللقاء بمشاعر فياضة، وعبارات منمقة، وسلوكات غريبة، مع تكلف واضح في إظهار الودِّ والتقدير والإعجاب، لكن هذا الوجه الذي يبدو جميلاً يخفي خلفه حقيقة بشعة مفادها أنَّه مُجرَّد قناع يخفي خلفه وجهًا في منتهى القبح، وجهًا سرعان ما يظهر على حقيقته عند الافتراق، وفي المجالس الخاصَّة التي يغيب عنها من كان يُكال له المديح عند اللقاء. هذا الصنف اللئيم قد تتفهم مُسوِّغات فرحه بتتبع الهنات والسقطات؛ لأن هذا طبع الذباب، لكن الذي لا يمكن تفهمه البَتَّة أن يتعمَّد هذا الذباب نسج حدث أو موقف من خياله المريض يصوغه بعبارات تستفز مشاعر المعني إمعانًا في الإيذاء الذي ينشده هذا الذباب. حشرة الذباب بالإمكان التخلُّص منها، لكن ثبت أن الذباب البشري يتعذر الخلاص منه، لذا كان الله في عون المبتلين بهذه الفئة الناشزة من إطارها البشري. abalmoaili@gmail