تمثل اللحظة الراهنة التي نعيشها منعطفاً حاسماً، بل يمكن القول إن هذا المنعطف من أهم المنعطفات التي مرت على البشرية على مدار تاريخها الطويل، والخطورة في هذه اللحظة التاريخية، أن البشرية تمضي فيها بسرعة هائلة في مناخ يشهد تطرفاً سياسياً وفكرياً وأحياناً يأخذ هذا التطرف شكلاً علمياً، خصوصاً في الممارسات التي تتم في المجال البيولوجي، كاستعمال أنسجة من أجساد بشرية تحمل جراثيم فتاكة لنقلها إلى أجساد أخرى، حيث تقوم بعض الشركات العاملة بتجارة الأنسجة البشرية والسماسرة في هذا المجال بأخذ أجزاء من الجثث وإعدادها لبيعها، فعلى سبيل المثال، ذكرت إدارة الأغذية والأدوية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الوكالة الفيدرالية المسؤولة عن سلامة الأنسجة، أن عام 2001 وحده شهد حوالي 519 إصابة بالتهاب قلب خطير، و207 حالة وفاة بسبب صمامات القلب الملوثة بالجراثيم. كما تتجه بعض هذه الشركات إلى زيادة اقتصادياتها عن طريق فتح مراكز علمية طبية لإنتاج الخلايا الجزعية من الأجنة الناتجة عن عمليات الإجهاض أو تلك التي يتم إلقاؤها في صناديق القمامة، وهذه الأجنة يمكن استنساخها والمحافظة عليها لمدة ليست بالقصيرة لاستخدامها في إنتاج الخلايا الجزعية، أو الممارسات المشبوهة في تجارة الأعضاء البشرية وتهريبها، حيث يبلغ حجم هذه التجارة مليارات الدولارات. فقد غدا تهريب الأعضاء البشرية تجارة دولية رائجة، فنظراً لقوائم الانتظار الطويلة للمرضى على مستوى العالم المنتظرين لزراعة عضو بشري، نشأت سوق رائجة للمتاجرة بالأعضاء البشرية فولدت هذه السوق وتبناها المهربون وجماعات الجريمة المنظمة الدولية، كما بدأ يتردد في مجال التقنية البيولوجية ما يسمى بالإرهاب البيولوجي حيث يتم إنتاج الجراثيم، وفي الوقت ذاته يتم إنتاج الوسائل التقنية التي تساعد في عملية نقل وانتشار هذه الجراثيم المسببة للأمراض الفتاكة. أثارت إذن التطورات المتسارعة في العلوم البيولوجية في العقد الأخير من القرن العشرين مخاوف عدة، بل ربما لم يسبق لأي قرن أن أثار هذا المستوى من الخوف والخشية، وأدخلهما في وعي الإنسان الذي ربما يفقد الثقة أحياناً في العلم ونتائجه، والآن عندما يُعلن عن كشف جديد في هذه العلوم، فإن السؤال لم يعد (ما النفع الذي يمكن لهذا الكشف أن يحققه للإنسان؟ بل، ما هو مدى الضرر الذي سيسببه وكيف سينتقص من صحتنا وحياتنا؟). إن التحديات الكبرى التي يواجهها العالم اليوم ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالعلم وتطوره وتقدمه، فالكوارث التقنية والمشكلات البيئية التي أصبحت متفلتة يصعب السيطرة عليها، وتزايد الخلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين الدول الفقيرة والغنية، يقود إلى ارتياب البعض في العلم ذاته ونتائجه، ولكن هذا لا ينفي أن تقدم العلم أصبح اليوم أمراً ضرورياً وحتمياً، إذ أن هذا التقدم يعود على الجنس البشري بالنفع، أو بعبارة أخرى، إن هذا التقدم هو في نهاية المطاف لصالح البشرية، ولكن كان من الضروري أن يساير هذا التقدم المتسارع للعلم تقدماً متوازياً في الأخلاق أو القيم المتعلقة بالعلم، وتطبيقاته التقنية حتى لا تحدث مثل تلك الكوارث التي أشرنا إليها سابقاً. ومن ثم كان من الضروري طرح هذا السؤال على العلماء والفلاسفة والمفكرين: هل إنسان القرن الحادي والعشرين لديه الاستعداد الأخلاقي أو القيمي الذي يتناسب مع التقدم العلمي المتسارع؟ أم أنه في حاجة إلى منظومة أخلاقية قيمية لا تستبعد العلم انتصاراً لمعتقدات خرافية، منظومة تحقق التداخل بين العلمي والأخلاقي القيمي؟ إن القضايا الأخلاقية والقيمية الناتجة عن التقدم العلمي تستدعي منظوراً جديداً لفلسفة العلم يتفاعل بداخلها الواقعي والقيمي، بحيث ينعكس هذا التفاعل على الناس أنفسهم من خلال وعيهم بالمخاطر المفترضة من جراء الاستغلال الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي للاكتشافات العلمية الجديدة التي صارت قوة تقنية ذات أهداف مغرضة في بعض الأحيان، خصوصاً بعد امتداد هذه الاكتشافات الجديدة خارج مختبرات العلماء والمهتمين بالبحث العلمي لتسكن داخل شركات ربحية متعددة الجنسيات هدفها الأساسي تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح بغض النظر عن المخاطر والانحرافات القيمية الأخلاقية والسياسية والبيئية. يتضح هذا التفاعل بين العلم والقيم على عدة مستويات منها ما نطلق عليه الأولوية الأخلاقية في قبول النظريات العلمية، بمعنى أن قبول النظرية في العلم يظل قابلاً للتعديل ليس على أساس التطورات النظرية والتجريبية فحسب، بل والأخلاقية أيضاً، بحيث لا يتم تطبيق نظرية ما إلا إذا كانت متوافقة مع القيم الإنسانية وبما يحقق مصالح أفراد المجتمعات. من جهة أخرى علينا أن نكشف عن القيم التي يحملها العلماء، والتي في بعض الأحيان تعكس قيم مؤسسة سياسية أو دينية تحدد أجندة البحث والقضايا والمشكلات التي تمثل أولويات ضرورية لدى تلك المؤسسات بغرض الوصول إلى نتائج تم تحديدها مسبقاً وتتفق مع معتقدات هذه المؤسسة، دون اعتبار للصالح العام. ومن جهة ثالثة ضرورة وضع مبادئ إلزامية تأخذ شكل القسم أو الميثاق الأخلاقي، هذا الميثاق الأخلاقي العلمي المهني يعمل على خلق عالم أفضل، يستخدم فيه العلم والتكنولوجيا بطرق مسؤولة اجتماعياً، كخطوة أولى على طريق السلام والأمن العلميين. نخلص إلى القول إن التطورات التي شهدها العلم في السنوات القليلة الماضية تحتم على العلماء والفلاسفة والمفكرين أن يضعوا خطاباً معرفياً جديداً يبرز التداخل بين الوقائع والقيم في العلم والمعرفة العلمية الناتجة عن هذا الأخير، ومن ثم يصبح هدف هذا الخطاب توضيح التداخل والتشابك بين الوقائع والقيم في العلم ودور المعايير الأخلاقية في قبول أو رفض افتراض أو نظرية علمية ما، فضلاً عن سعي هذا الخطاب لوضع قواعد لممارسات العلم التطبيقية التي تتنافى مع القيم الأخلاقية؛ حيث يضع بعض المواثيق التي ينبغي إقرارها من قبل ممارسي العلم والبحث العلمي.