يعتبر كونشيرتو الكمان والأوركسترا أحد أهم وأبرز أعمال الموسيقار الألماني يوهانس برامز، ليس فقط لبنائه الموسيقي الذي شكل حينها تحدياً كبيراً لقدراته نجح فيه بجدارة رغم أنه لم يكن عازف كمان، بل لأنه قد حقق من خلاله رغبته في الجمع بين الأضداد، والمزج بإطار بناء سمفوني بين الآلة المنفردة والأوركسترا، أو بمعنى آخر الجمع بين قدراته كمؤلف أغاني، كما يبدو من المقاطع التي ألفها للكمان المنفرد، وقدراته كموسيقار، كما يبدو من المقاطع التي ألفها للأوركسترا. لتحقيق ذلك إحتاج برامز الى دعم وخبرة صديق عمره الموسيقار وعازف الكمان الأسطورة جوزيف يواخيم، الذي أهـداه العمل بعد إنجازه، وكان أول من عزف كمانه المنفرد أمام الجمهور بقيادة برامز نفسه في لايبزج بليلة رأس السنة لعام 1879. فحينما شرع برامز بتأليف الكونشرتو والحركة الأولى منه تحديداً، أرسل له مسودة نوتات العزف المنفرد للكمان كي يُبدي ملاحظاته حولها، وترك له تأليف كادينزا الحركة الأولى التي باتت جزءاً لا يتجزأ من تركيبتها وهويتها النغمية حتى اليوم. تمتاز الحركة الأولى بكونها أبرز ما يمكن أن يعبر عن التمازج الذي أراده ونجح فيه برامز بين العزف المنفرد والجماعي للآلات الموسيقية، وهي طويلة تستمر حوالي نصف ساعة أي ما يعادل زمن سمفونية كلاسيكية كاملة. تبدأ بلحن شاعري ثلاثي الأنغام يشعرنا وكأنه يجسد الجانب المضيء والمظلم للروح الانسانية تعزفه الوتريات والهوائيات أولاً، ثم تأخذه الأوركسترا كاملة لتعيد صياغته الى لحن ثان مهيب، لا يلبث أن يقاطعه الكمان لتنساب الأنغام من بين أوتاره كانسياب الحمم من إنفجار فوهة بركان وصولاً لعزف اللحن الشاعري الرئيسي. يتبعه لحن كادينز، هو كما ذكرنا يعود ليواخيم، يسمح للعازف المنفرد بإظهار براعته بعزف مادة الحركة الموسيقية وجملها اللحنية دون مرافقة وبغض النظر عن لحنهـا الأساسي، وهنا أعطى برامز للكمان المنفرد مساحة واسعة ربما لم يعطها له غيره، جعلت الكمان يبدو وكأنه صوت بشري حي ومطرب يسعى للتعبير عن إمكاناته الصوتية. بعدها تتشارك الأوركسترا والكمان بإعادة عزف اللحنين الأساسيين للحركة، وشيئاً فشيئا يعود كادينز يواخيم ليقودنا الى نهاية الحركة. الحركة الثانية بطيئة وتبدو خالية تماما من حضور الهوائيات النحاسية، كما أن حضور الوتريات فيها متواضع، مقارنة بالحضور الطاغي للهوائيات الخشبية كالأوبو، الذي يعطيه برامز دوراً أساسياً ضمن الأوركسترا خلال عزفها للحن الحركة الرئيسي والتنويعات المصاحبة له بمرافقة باقي الآلات. إلا أن القدح المعلى في الحركة يبقى للكمان، الذي سرعان ما يقتنص قوسه لحنها الرئيسي ليسبح به على أمواج أوتاره التي تتلاعب بأنغامه بشاعريتها الأخاذة بمرافقة الأوركسترا، حتى يصل بنا الى نهايتها. الحركة الثالثة والاخيرة لحنها هنغاري بنكهة غجرية في ما يشبه التحية ليواخيم الهنغاري المولد، وهو لحن جميل يبدو قريباً الى القلب، لا يجرح الأذن رغـم أنغامه السريعة المتقافزة، وهنا أيضاً بإمكان عازف الكمان المنفرد أن يظهر براعته منفرداً أو بمرافقة الأوركسترا. وفي الختام يفاجئنا برامز بنهاية غير مالوفة للحركة، فهي ليست ذات طابع أوركسترالي، بل بطيئة نوعاً ما ودون ضربات قوية متتابعة كما تعودنا في نهاية المؤلفات الأوركسترالية. لقد حاول برامز أن لا يخرج في وضعه لهيكل الكونشرتو العام عَن المألوف بطريقة تأليف الكونشيرتات، أي أن يكون بثلاث حركات، وسطية بطيئة بين حركتين سريعتين، لِما عُرِف عنه من تمسك بالتراث الموسيقي للأسلاف وقوالبهم الموسيقية، مما أفقده في نظر الكثيرين هويته الموسيقية الخاصة به، لكنه كان خلاقاً بطريقة بنائه لتركيبة العمل من الداخل، وفي طريقة توليف العلاقة بين الكمان والأوركسترا. فالكونشيرتو لم يكن مجرد عمل بصيغة آلة منفردة تعزف لحناً بمرافقة أوركسترا، بل بصيغة آلة منفردة تعزف مع الأوركسترا نداً لند، أو تتبادل معها الأدوار بعزف الألحان والأنغام، كما ابتعد عما كان متعارفاً عليه حينها من رمي الثقل والتركيز في عزف اللحن الرئيسي على الآلة المنفردة أي الكمان بحالتنا هذه، لأن هذا الأمر يخالف مبدأه وطريقته بالتأليف، لذا حاول أن يوزع اللحن الرئيسي والألحان الثانوية بين الكمان والأوركسترا، مع إعطاء الكمان فسحة عزف مريحة باستخدام تقنية الكادينز، وهو ما فاجأ حينها المستمتعين الذين كان هذا الأمر غريباً على ذائقتهم الموسيقية التي إعتادت على نمط معين من المؤلفات الموسيقية بصيغة الكونشيرتو. لكن وبالنتيجة خرج الكونشرتو بأبهى صورة بحيث وصفه يواخيم بأنه أحد أفضل أربع كونشرتات ألمانية للكمان قام بعزفها على الإطلاق. وهو يعتبر اليوم من أبرز كونشيرتات الكمان وأهم أعمال برامز الأوركسترالية. https://www.youtube.com/watch?v=jM12fUAlZtU