إيران حجزت لها مقعدًا مهمًا فى الشئون الإقليمية منذ فترة ليست بالقصيرة، وتأكد ذلك المقعد أمام تراجع نسبى للولايات المتحدة فى شئون الإقليم تحت إدارة باراك أوباما، تزامنًا مع الاتفاق النووى العالمى مع إيران صيف عام ٢٠١٥، وأيضًا التدخل النشط لروسيا فى الإقليم. أصبحت إيران لاعبًا فى عدد من الساحات فى الدائرة المحيطة، من العراق إلى لبنان إلى اليمن. ذلك كان التاريخ السابق، ماذا عن المستقبل؟ العقيدة السياسية الكبرى التى تحكم النظام السياسى الحالى فى إيران هى الحفاظ على النظام القائم بكل الطرق وشتى الوسائل، وقد تركبت معه مصالح وامتيازات تفوق كثيرًا مصالح الشعوب الإيرانية الطبيعية، ولم يكن مستغربًا قبل أسابيع قول السيد على خامنئى: «إن إيران تحارب فى سوريا حتى لا تضطر للحرب فى طهران»! ذلك قول يسير بشكل منطقى مع العقيدة السياسية الكبرى الإيرانية، هناك خوف حقيقى ربما، ومبالغ فيه ربما أيضًا على بقاء النظام. الخوف نابع من سببين؛ الأول التدخل الغربى فى معظم سنى القرن العشرين فى الشئون الإيرانية، على رأس ذلك التدخل ما عرف اليوم بثورة محمد مصدق فى خمسينيات القرن الماضى. والثانى هو اقتناع غير متحدث عنه علنًا، بأن النظام السياسى بقيادة رجال الدين ليست له علاقة بمسيرة التاريخ البشرى، فهو يحمل بذور فنائه من داخله، ذلك الاقتناع بشقيه المعلن والمستور، هو ما يدفع إيران إلى التمدد خارج حدودها لتأخير العطب، ساعد فى ذلك التمدد عوار أساسى عميق فى الدولة الوطنية تاريخى ومتجذر فى كل من العراق وسوريا ولبنان وأخيرًا اليمن، أضعف من قدرة الدولة على المقاومة، لقد ساعد ذلك العوار التاريخى إيران أن تدفع بمصالحها متشعبة من خلال أدوات متعددة وصولًا إلى التوسع والتمركز. واضح أننا ندخل مرحلة جديدة اليوم، هى حتى الآن ضبابية غير واضحة المعالم، ولكن يمكن تلمس بداياتها، فقد عمدت طهران أخيرًا إلى القول العلن، إنها يمكن أن تتعاون مع المملكة العربية السعودية، فى حلحلة المشكلات العالقة فى الجوار، سوريا والعراق واليمن، كما قال المتحدث الإيرانى «كما فعلنا فى لبنان»، ذلك قول يشى بقراءة مبكرة إيرانية بما يمكن أن تتوجه إليه الإدارة الأمريكية الجديدة من عداء علنى للمشروع الإيرانى برمته، التوسعى فى الخارج والوطنى فى الداخل. وهو ما يزيد القلق الإيرانى، بل ويفسر إصرار طهران فى هذه المرحلة المبكرة على الاختلاف المعلن مع شريكها الروسى فى مقاومة فاشلة لعدم دعوة الولايات المتحدة إلى محادثات أستانة، محاولة لإظهار الشوكة مبكرًا. إذا أضفنا إلى ذلك التحليل أن أول مسئول من الشرق الأوسط، وربما من خارج إطار الأمريكتين، سوف يلتقى بالسيد الجديد فى البيت الأبيض دونالد ترامب، هو بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، والأخير لم يعد موقفه وحكومته من طهران سرًا، بل قد سرب عددًا من المعلومات لشريك آخر هو موسكو أنه لا ينظر بعين الرضا لوجود ثقيل لإيران فى سوريا، لا بأس من وجود مؤقت ولكن ليس ثقيلًا، من ناحيته السيد دونالد ترامب يرغب فى إرضاء إسرائيل لعدد من الأسباب، كثير منها داخلى أمريكي؛ فالموقف المعادى له ولرئاسته من جانب الإعلام الأمريكى، وهو أيضا شعبى، يمكن ضبط بعضه فى نظره، بالتقارب أكثر مع تل أبيب، بجانب إرضاء الحزام المسيحى الواسع المتشدد، والذى يرى أن وجود إسرائيل هو تحقيق لنبوءة الكتاب المقدس. الاحتمال مما تقدم أن تدخل العلاقة الأمريكية الإيرانية فى منعطف مختلف عما كانت عليه خلال السنوات الماضية فى العهدين الأمريكيين الجمهورى والديمقراطى، من مهادنة وخطب ود، وفى بعض الأوقات تعاون، إلى عداء صريح. إلا أن الأمور السياسية مثلها مثل الأدوية قد تكون ضارة نافعة أو العكس، فاحتمال نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إن حدث قد يكون هدية لا إرادية من الإدارة الأمريكية الجديدة إلى النظام الإيرانى، الذى سوف يستفيد منها إعلاميًا من جهتين، كلتاهما مضللة للجمهور، الأولى إظهار معارضة شفوية معلنة ودؤوبة ضد الخطوة، والثانية محاولة إظهار بقية الأنظمة العربية أنها متقاعسة، وهى خطوة مزدوجة للوصول إلى الفضاء الشعبى العربى إمعانًا فى خلط الأوراق. من جهة أخرى، لا يمكن استبعاد أن يحصل شيء من الصفقة أيضًا، بين طهران وواشنطن، أخذًا بالاعتبار الطريقة البراجماتية التى يتعامل بها نظام طهران فى وقت الأزمات، من تلك الصفقة أن تحاول طهران بيع واشنطن فكرة «التعاون ضد الحركات الإرهابية فى المنطقة»، ولكن محاولة بيع تلك الفكرة للإدارة الجديدة سوف يكون صعبًا، لأن تلك الإدارة ترى أن طهران ليست بعيدة عن جذور الإرهاب أو احتضان بعضه. لا أرى الآن أن هناك أوراقًا مناورة كثيرة لطهران، غير أن تذهب إلى التشدد، ومعاودة حرب إعلامية وكلامية ضد الشيطان الأكبر والأصغر، بل ربما الدفع بأحد الأطراف المتعاونة معها، من وكلائها من خارج الدولة وخارج إيران، بتصعيد الأمور، بل بعمل شبه جنونى، سواء فى اليمن أو العراق أو سوريا أو حتى لبنان، أو غيرها من دول الجوار. الورقة المتاحة هى الموضوع الفلسطينى، الذى أولًا يجعلها تحمل ورقة رابحة فى يدها جماهيريًا، وثانيًا تتخطى الاتهام الطائفى، إلا أن الورقة الفلسطينية تلك لن تكون لها القيمة التى كانت فى عهد الإدارة الأمريكية السابقة، تلك كان لها مشروع اسمه حل الدولتين، فكان الحفاظ على حبل العلاقة مهمًا لها، فى الحالة القادمة سوف يكون حل الدولتين تاريخًا سابقًا، وبالتالى الورقة نفسها لن تكون مؤثرة. يبقى أمام إيران ما يمكن أن يعرف بـ«الانخراط البنّاء» فى حل المشكلات العالقة والمعقدة فى الدوائر الثلاث الأساسية «العراق، سوريا، اليمن»، شريكها الطبيعى هو المملكة العربية السعودية، التى تعرف طهران أنها تاريخيًا لم تكن ذات شهوة توسعية أو تهميشًا للآخر، كما لا تحمل أفكارًا للتوسع القومى الإمبراطورى. ربما هذا أول الخيط الذى يفسر الدعوة المتكررة أخيرًا من طهران للتعاون. السؤال الأكبر: هل تستطيع طهران أن تقلب الصفحة، كما حاول كل من رفسنجانى رحمه الله، وخاتمى أيضًا إلى حد ما؟ وهل تستجيب للمبادرة الخليجية التى حملها الأسبوع الماضى وزير الخارجية الكويتي؟ ذلك أمر يحتاج إلى أكثر من الكلام، بل إلى بناء الثقة، وأوله عودة الدولة السورية والعراقية واليمنية إلى الحضن العربى، والكف عن التدخل فى الشئون الداخلية العربية. إنها مرحلة فاصلة فى تاريخ المنطقة سوف تعتمد إيجابياتها أو سلبياتها على ردة فعل من طهران، إن كانت تعقل، أو متابعة السير فى الصدام، إلا أنها بالتأكيد لن تكون مرحلة كسابقتها.