النسخة: الورقية - دولي ربما تكون أو لا تكون صحيحة الحكاية التي تقول ان الكاتبة الفرنسية جورج صاند (واسمها الاصلي «أورور دوبان دي فرانكوي») حين التقت نابوليون الثالث في باريس في العام 1852، وقفت امامه بكل جرأة تدافع عن قضية الجمهوريين. فكان لها ان نالت منه وعداً - نفذه على الفور - بأن يطلق سراح عدد من المعتقلين السياسيين اضافة الى سماحه بعودة العديد من المنفيين بسبب الاحداث السياسية السابقة. المهم في الأمر ان معارضي الانقلاب الذي قام به نابوليون الثالث خوّنوا الكاتبة ووقفوا ضدها... اما هي فإنها لم تأبه بذلك، بل واصلت نشاطها «السياسي» بصرف النظر عما كان لها من سمعة «سيئة» بسبب غرامياتها المتلاحقة. فهي كانت في ذلك الحين تقترب من عامها الخمسين وصار المجد كل ما يهمها، اضافة الى العمل لتحقيق افكارها السياسية الجمهورية والتقدمية. من هنا، حين أعلنت في ذلك الحين انها في صدد انجاز كتابة «قصة حياتي» في اجزاء عدة، فغر كثر افواههم: كيف تراها ستقدم على هذا، وهي تكاد تنصرف كلياً الى الفكر والسياسة؟ كيف ستبوح بما شهده ماضيها من غراميات ومغامرات؟ ماذا ستقول في تلك الحكاية؟ في ذلك الحين لم تكن جورج صاند تعلم - ولا كان احد غيرها يعلم - ان حكاية حياتها تلك لن تكتمل الا في عشرين مجلداً... بل ان العشرين مجلداً، لن تتسع لأي شيء يتعلق حقاً بقصة حياتها. اذ هنا كانت المفاجأة الكبرى والخيبة الأولى للجمهور الذي كان ينتظر صدور الكتاب بكل لهفة... ما جعل نقاداً يقولون ان هذا الكتاب ذا المجلدات العشرين كان يجب ان يعنون: «حكاية حياتي قبل ان أولد». ذلك ان جورج صاند روت في الكتاب كل شيء... ونسيت ان تروي تفاصيل حياتها. نسيت؟ انها كلمة مخففة طبعاً: استنكفت عن اشباع نهم اولئك الذين كانوا تواقين الى معرفة خلفيات «الفضائح». لا فضائح هنا ولا أسرار. لا غراميات ولا مغامرات. هنا ثمة كتاب كأن مؤلفته سياسية مخضرمة، توظف كل كلمة وتحسب حسابها. > على هذا النحو أتى الكتاب كما قلنا خيبة كبرى. وخيبة تتجاوز كينونة جورج صاند نفسها. فالحال انه كان عرف دائماً، في عالم الأدب والفكر، ان الرجال أكثر جرأة من النساء... ولا سيما حين يكتبون مذكراتهم او سيرهم الذاتية. بل كاد هذا النوع يقتصر على الذكور، على رغم نصوص وجدت بين الحين والآخر، لنساء تحدثن ببعض الشفافية عما عشن... وان غالباً بلغة التبرير والشكوى. من هنا حين أعلنت صاند خوضها التجربة قال أهل الادب: ها هو جديد يطل على حياتنا. > في النهاية كرست جورج صاند، الأجزاء العشرة الأولى من كتابها، للحديث المسهب عن... جدودها، منذ زمن اوغوست الثاني، ملك بولندا، الذي كان جداً بعيداً لها، من طريق جدتها الكونتيسة اورور دي كونغسمارك، ثم من طريق مدام دوبين دي فرانكوي، جدتها لأبيها. وكان من اللافت في ذلك الحين حقاً، المجلد الذي كرسته الكاتبة بأكمله للحديث عن هذه الجدة، التي رحلت عن العالم في العام 1821، ما يعني ان جورج صاند عرفتها عن كثب، اذ كانت في السابعة عشرة من عمرها، ناهيك أن الاسم الذي اطلق على الكاتبة حين ولدت كانت له علاقة مباشرة بتلك الجدة. ومن هنا لم يكن غريباً ان تتعلق بها الصغيرة كثيراً، بل سنكتشف في ذلك الجزء ان جورج صاند انما وجدت نفسها حقاً في شخصية جدتها، التي كانت سيدة كبيرة من سيدات القرن الثامن عشر، وعرفت كنجمة من نجوم المجتمع بعلمها وحرية فكرها وأناقتها. ومن الواضح، على اي حال، ان جورج صاند تأثرت بجدتها هذه اكثر مما تأثرت بأي شخص آخر عرفته في طفولتها وشبابها، بل ان كل ذلك الاهتمام الذي اهتمته ببولندا - ولا يمكن ان نفصل عنه شغفها بشوبان موسيقي بولندا الأكبر الذي كانت لها معه اجمل حكاية حب في حياتها -، انما جاءها من طريق تلك الجدة. > من هنا رأى كثر من الدارسين، انه اذا كان على القارئ ان يبحث أين توجد جورج صاند حقاً في ذلك الكتاب، سيتعين عليه ان يتوقف طويلاً عند ذلك الجزء. بل ان كثراً سيقولون: ليت جورج صاند لم تكتب سوى ذلك الجزء... ليس فقط لأنه الأجمل والأعمق بل لأنه الأكثر صدقاً وصراحة... لماذا؟ لأن جورج صاند، اذا كانت في ما تبقى من اجزاء كتابها، قد استنكفت عن ذكر غرامياتها ومغامراتها، فإنها في المقابل أسهبت في الحديث عن أمور كثيرة - وبعضها فضائحي - يمس اقرباء لها، وأشخاصاً آخرين عرفتهم. ومن هؤلاء أمها التي لم تحظ بكثير من التعاطف والحنان والتكتم من جانب ابنتها... اذ ها هي هذه تستفيض في الحديث عن أمها وعن مراهقتها العاصفة، وما «تعرضت» له من احداث وانتهاكات وبخاصة خلال حملة ايطاليا... قبل ان تقول لنا ان الأم تخلت عن معجب ثري كان يتطلع الى حبها وحمايتها، لكي تلحق بالسيد صاند... اما بالنسبة الى اورور / جورج صاند نفسها، فإن على القارئ ان ينتظر آخر صفحات الجزء الثامن قبل ان يجد فقرات - قليلة - تتحدث عن مولدها... ولكن ضمن اطار حديثها عن أمها. والكاتبة بعد ان تجتاز سن الصبا بنوع من التكتم والحركة المتسارعة، سنراها في الجزء العاشر تترك زوجها متوجهة الى باريس، في رفقة جول صاندو، الذي ستستعير اسمه لتطلقه مجتزءاً على نفسها مذاك وصاعداً، متخلية عن لقبها «البارونة دو ديفان» الذي كانت اكتسبته من زواجها الأول... وهكذا، منذ الجزء العاشر، نبدأ بالإطلال على اجزاء مختارة من حياة كاتبتنا... كل هذه الاجزاء محاطة بستار سميك، بالكاد نعرف شيئاً عنها حقاً من خلاله. > وهنا في هذا الاطار، لم يكونوا مخطئين النقاد الذين قالوا ان من يريد ان يعرف شيئاً عن السنوات العاصفة في حياة جورج صاند، ليس عليه ان يبحث، بالمجهر، في صفحات «قصة حياتي»، بل يكفيه ان يبذل بعض الجهد لقراءة روايات لها كانت اصدرتها سابقاً، وتبدّت - في شكل او في آخر - أشبه بالسيرة الذاتية المقنّعة. ومن هذه الروايات - والكتب غير الذاتية ايضاً - «هي وهو» و «السكرتير الخاص» ثم على وجه الخصوص «رسائل مسافر»... هنا لم تكن جورج صاند تحسب الكثير من الحسابات، وربما كان القناع الروائي يشعرها بنوع من الحماية والأمان. لهذا ملأت هذه الكتب بعواطفها. ومن هنا صارت الاجزاء المتبقية من «قصة حياتي» عرضاً لأفكار جورج صاند، أكثر مما هي عرض لعواطفها وتفاصيل حياتها... بل استعراض لذكائها «الفائق» كما تصفه بنفسها، ناهيك عن صفحات ممتعة تحدثت فيها عن ولادة إلهامها، بالنسبة الى كل عمل من أعمالها... > وهنا يكمن، على اي حال، سحر لا شك فيه: اذ من الممتع للقارئ ان يرى هنا كيف ان جورج صاند كانت تحوّل كل المحيطين بها الى شخصيات في كتبها، وكيف انها انما كانت تبحث عن الشعر من خلال علاقتها بألفريد دي موسيه، وعن الموسيقى من خلال علاقتها بفرانز ليست... وعن السياسة مع ميشال دي بورج، وعن الجذور مع شوبان. اذاً، اذا صدقنا ما تكتبه صاند هنا... فإنها انما سعت طوال عمرها الى توظيف الرجال... فكرياُ لا اكثر في حياتها. > طبعاُ يقول لنا تاريخ حياة جورج صاند ان هذا لم يكن صحيحاُ. ولكن اذا كانت الكاتبة الخمسينية قد شاءت ان تفسره على ذلك النحو في «قصة حياتي» لم لا؟ ونعرف ان جورج صاند ولدت العام 1803 ورحلت في العام 1876. وهي شغلت الحياة الثقافية والادبية الفرنسية بغرامياتها وصالونها وتدخلها في شتى الامور طوال عقود من السنين، لكنها شغلتها ايضاً بأعمال كتابية عاشت طويلاً من بعدها، ومن أبرزها، الى ما ذكرنا «بحيرة الشيطان» و «كونسوليد» و «كونتيس دي دودولشتادت»... وغيرها.