من الوجهة الإجرائية يُطلق على كل وحدة بشرية تعيش تحت مظلة واحدة عنوان المجتمع. وهذا الائتلاف الاجتماعي المحتّم بضوابط سياسية وثقافية وقيمية ليس كتلة واحدة كما يبدو في ظاهره، فهو مكون من عوالم مختلفة ومتباينة، ومزدحمة بخصائص تبدو أحيانا في حالة من التكامل وتارة في حالة من التصارع. وبالتالي فهو ليس على تلك الدرجة من التجانس والانسجام التي يُراد لها أن تكون لافتة جامعة. حيث يزدحم أي مكون اجتماعي بالتشظي الهوياتي، والمعاني المتخالفة، والإرادات المتغايرة. وكل وحدة من وحداته تعيش حالة من التفاوض المعلن مع الوحدة المجاورة. سواء عبر الرسائل الودية أو المماحكات العنفية. وذلك بدعوى إبداء صور التفوق والتمايز. أو ما يسميه ميشيل فوكو (مبيان القوة). أي تأكيد سيطرتها على منظومة القيم التي يمكن أن تتأهل لقيادة ذلك المجتمع. وهذا هو ما يفسر استجلاب كل الظواهر المعاصرة المتعلقة بالهوية إلى مجتمعنا. حيث النعرات الأصولية والوطنية التي تجتاح العالم. وارتفاع منسوب حسّ العنصرية. فكل فئة تقاوم ما تتوهمه كأزمة من أزمات التبدّد. كما تختلق من الخصوم والأعداء ما يكفي لتصليب عود الجماعة. وهو الأمر الذي يدفعها إلى رفع حالة التصادم مع الفئة الأخرى. حيث تتولد أزمة معنى، مرتبطة في جذرها بمفهوم الهيمنة، استمراء أو رفضا. بمعنى أن التشاحن الذي يُترجم في مواقع التواصل الاجتماعي، ويجعل منها فضاءات للتكاره الاجتماعي والتقاتل العقائدي، إنما يشير إلى رغبات لإعادة تشكيل مفهوم المركزية الذي تحتله فئة تصنف نفسها كقوة نقائية النزعة، مستثناة من الأخطاء والارتباكات. وهو الأمر الذي يعطل نشوء الخطابات المؤسسة للمجتمعات الحديثة، بما تحتمله من أفق مدني، يقوم على التنوع والتعدد والتشظي. أي إرساء التماس الثقافي مع علامات التمدد الحضري. في ظل ذلك التصادم العبثي تتصعّد رموز ثقافية واقتصادية لتحتل مواقع البطولة الاجتماعية. إذ لا يمكن لأي فئة مجتمعية أن تفرض مرئياتها من دون تلك البطولات المتخلّقة جراء الاشتباك مع مختلف الوحدات والمكونات الاجتماعية الأخرى. وهذا هو ما يؤشر على أهمية الفرد. ويفسر ما يُعرف بالتفرُّدات. حيث تحتاج العصبيات إلى منظومة من الرموز لتتحشد وراءها. وذلك هو بالتحديد ما تأكد وجوده كخلل بنيوي عميق في ممكنات الحوار الاجتماعي في صيغته الوطنية. حيث استهلكت تلك العقول طاقتها في المهاترات وشد عصب الجماعة. لدرجة أنهم صاروا جزءا من المشكلة. وبالتالي فهم غير مؤهلين لتوليد معاني المواطنة التي يفترض أن تتأتى من القدرة على توليد المعنى وتحرير فكرة الهوية من أزماتها. وإن كانوا يصنفون، حسب النظرة الشعبية، في خانة العقلاء المؤهلين لتجسير الفجوة بين الفئات المجتمعية. هكذا أصبح مزاج بعض الأفراد عائقا أمام أي ائتلاف أو تعايش، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الفردانية منطلقا لذلك التوجه التسالمي. ربما لأن التفرّدات التي صبغت المرحلة الماضية لم تكن ذات طابع عقلاني استقلالي، بقدر ما كانت تمثيلا لرأي الجماعات وامتثالا لمطالبها التأزيمية. وأي قراءة تحليلية لخطاب أي رمز من رموز اللحظة التويترية ستكشف عن انعدام المسافة بين البطل الفرد والجماعة التي ينتمي إليها ويمثلها. كما ستكشف عن استثماره لحالة السخط العام لتصعيد ذاته كمثقف وكمفكر وكمنقذ ولكن بدون أي رصيد أخلاقي. إذ لم تظهر مجموعات جديدة خارج تلك الهويات الضيقة المنغلقة. وبالتالي لم تنشأ حواريات مغايرة. ولذلك ظل التلاسن هو اللغة الوحيدة تحت مظلة مرتبكة المعالم اسمها المجتمع. لأن تنظيمها الداخلي يحفز على الاشتباك العبثي، وتأخير لحظة انبثاق أبجديات المجتمع الحديث. إن التركيب القسري للمجتمعات، ورياء الوحدة المظهرية غير كاف لتحصين المجتمع من ظهور ذلك الطابور من الأفراد المؤججين للنعرات بدعوى العقلانية. فهم يجيدون التعامل مع قواعد التلامس الثقافي. ويمكنهم بمقتضى درايتهم بالسيرورة الاجتماعية تشكيل أكثر الهويات انغلاقا وتخريج طوابير من المتطرفين المنذورين للدفاع عن أمراض الجماعة. فهم أبطال الفُرقة الاجتماعية وأعداء المواطنة المؤسسة على الوعي. لأنهم لا يقاتلون الجماعات الأخرى من واقع اللحظة فقط، بل يثبتون المرجعيات المؤكدة على حسّ الاقتتال، ويرسمون أفق اللحظة القادمة كمنازلة تستوجب الاستعداد بكل احتمالاته. بمعنى أن تلك البطولات الفردية هي المسؤولة عن إنتاج خطاب الكراهية الذي يزرع بذور الاحتراب. لأنها لا تريد أن تتزحزح عما تعتقده بالثوابت الهوياتية التي تحد من ظهور الحداثة الاجتماعية التي يستحقها مجتمعنا ككل المجتمعات.