ما من ديانة أُنزلت إلا وآمن أصحابها بالبعث بعد الموت في الحياة الآخرة، غير أن ظاهرة غريبة باتت تنتشر بين البعض في تلك الأيام، بدت كأنها انفصام عن الواقع وإن كانت بغير قصد؛ ألا وهي الاعتقاد في البعث، ولكن في الحياة الدنيا نفسها وفوق الأرض نفسها التي نحيا عليها. فالبعض توقف به الزمن طويلاً عند لحظاتٍ، لم تنجح الأشهر والسنوات في تجاوزها، فظلت عقولهم في سباتها، آخذة معها الحاضر والمستقبل ومضيِّعة وراءها كل حلم وأمل وثورة. فمنذ ست سنوات وحتى هذه اللحظة والبعض يحلم بمجلس رئاسي مدني يجمع بين شخصيات متنافرة يكره بعضُهم بعضاً. ومنذ ثلاث سنوات وحتى الآن والبعض الآخر ينتظر عودة محمد مرسي إلى قصر الرئاسة عصر الجمعة "أيّ جمعة"! وآخرون يحلمون باعتلاء حمدين صباحي كرسي الرئاسة على الرغم من وفاته السياسية إكلينيكياً في مسرحية الانتخابات الرئاسية الهزلية الأخيرة والتي شارك فيها بدور الكومبارس الصامت. والبعض يرى في البرادعي أو أبو الفتوح رجل المرحلة القادمة، فيما يهلل البعض الآخر لجمال مبارك الذي مزَّق الثوار في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني لافتات حملت صوره واسمه، ثائرين ضد حكم والده وحُلم والدته؛ بل والمزري أن البعض أعلن، وبكل بلاهة، تأييده ومطالبته بتولي اللواء المتوفى عمر سليمان منصب رئاسة جمهورية مصر العربية "مستقبلياً". وعلى الرغم من أن جميع الأمثلة السابق ذكرها تدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن للسذاجة وجوه كثيرة، فإن النظام العسكري الحاكم ربما وجد فيها ضالته لإلهاء الشعب، ممارساً اللعبة الشهيرة "بص العصفورة". وما ساعد النظام كثيراً في نجاح لعبته، تكاسل الشباب عن تشكيل نخب جديدة تعبر عنهم بصدق، والسعي الحثيث نحو التخلص من النخب السياسية المتهالكة وتحطيم تلك الأصنام التي صنعوها بأنفسهم لأنفسهم، من منطلق المثل الشعبي الشهير "اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفهوش"، وأن "عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة". بيد أن الواقع أثبت أن تلك العصافير التي تحملها أيديهم باتت كالجِيف التي فقدت نبضها بالحرية وصارت عبئاً ثقيلاً على من يحملونها. ربما ترجع طريقة تعاطي أبناء الشعب المصري مع حكامهم ونُخبهم المصنوعة على أعينهم، إلى جينات الشعب المصري نفسه؛ فعلى الرغم من التطور المذهل في ثقافات وعقليات الشعوب، فإن الشعب المصري، بجميع انتمائاته السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بدا كأنه ما زال يحمل إرثاً ثقيلاً منذ العصور الفرعونية في الثقافة والتفكير، فلا أتعجب نهائياً من ترحُّم بعض المصريين القدماء على فرعون موسى بعد غرقه، وانتظارهم عودته للحكم من جديد على الرغم من رؤيتهم موته رأي العين! وبدلاً من أن تصبح نجاة جسده عبرة للناس كما أراد الله، أخذ البعض ينظر إلى جسده ويحدّثه على أمل عودة الروح إليها مرة أخرى والعودة لحكم البلاد من جديد. انقطعت السبل، ولم يعد هناك من سبيل لنجاح الثورة والخلاص من الحكم العسكري القائم إلا بالخلاص من تلك النخب السياسية التي أصابها العطب وإعادة تكوين نخب جديدة، تعبر عن الشباب وثورتهم بصدق، وتشد على أيدي أبناء الشعب المصري للاتحاد ونبذ الخلافات وتصحيح مسار الثورة. فمتى يبدأ الشباب في التعاطي مع الثورة بروحهم وعزيمتهم وأيديهم؟ ومتى يتوقف الشباب عن ممارسة السياسة بعقلية مشجعي كرة القدم المصرية؟ فللأسف الشديد، على الرغم من تسبب عوامل السن والتعرية في إصابة النخب السياسية الموجودة على الساحة الآن بالشيخوخة، فإن الكثير من الشباب ما زال يعقد الأمل عليهم، منتظراً أن يخرج منهم من يتقمص شخصية "شحاتة أبو كف" أو "أونكل زيزو" صاحب المعجزة الكروية الشهيرة بالتهديف بخلفيته "غير العسكرية". فهل يدرك الشباب الوقت الذي يمر هباء ويبدأ بتشكيل نخبة جديدة؟ أم تظل آماله معقودة على هذه النخب الشائخة في صناعة المعجزات لبلد تعداده السكاني تخطى التسعين مليون نسمة؟ مع أن جل معجزات هذه النخب وعصا موسى التي تمسكها أيديهم، ما هي إلا "قرص أزرق"، تحيي فيهم ما أتلفه الدهر وتعيد إليهم صباهم لسويعات قليلة بالكاد ليلة الخميس الأخير من كل شهر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.