النسخة: الورقية - دولي لم يكن امراًً عادياً أن يقال عن الكاتب الفرنسي شارل نودييه، حين نشر، للمرة الأولى في فرنسا روايته، أو بالأحرى قصته الطويلة الأشهر «تريلبي»، في العام 1822، ان هذا العمل «برهن كيف ان نودييه كان في إمكانه ان يتلقى شتى التأثيرات الأجنبية، وأن يعيش في كتابة الحـنين الرومانسـي الى أراضـي الشـمال، فـي الوقـت نـفـسه الذي عرف فيه، بالنسبة الى ما هو جـوهـري في فـنه، ان يـظـل مغروزاً في صلب التقاليد الفرنسية». ففي ذلك الحين، كانت عواصف التعصب القومي تفعل فعلها في النفوس والأذهان في فرنسا كما في غيرها من البلدان الأوروبية، وكان بالكاد يمكن المفكرين والفنانين ان يفلتوا منها، طالما انها كانت تصبغ المجتمعات بأسرها. في ذلك الوقت، كانت الحياة الاجتماعية الفرنسية لا تزال تعيش تحت صدمة الهزيمة التي احاقت بنابوليون بونابرت، على يد ذلك التحالف الأجنبي الذي كان مسعاه الأول، في رأي الفرنسيين، أن يدمر كل انجازات الثورة الفرنسية بذريعة انه يرد العدوان الذي كان نابوليون شنّه على معظم أرجاء اوروبا، وأوصله الى مناطق عدة أخرى من العالم، ولكن دائماً بذريعة مقارعة الاستعمار البريطاني وغير البريطاني. > لكن شارل نودييه أفلت، كما يبدو، من احساس التعصب ذاك، وعرف كيف يستفيد في فنه الكتابي، لا سيما في قصصه الطويلة والقصيرة، من إنجازات مبدعي الشعوب الأخرى وبخاصة مبدعي أمم كان الفرنسيون ينظرون إليها على انها أمم معادية. وفي قصة نودييه «تريلبي» بالتحديد، كانت واضحة، ثم مرحّباً بها كذلك، الاستفادة من ادب السير والتر سكوت الذي كان في ذلك الحين الزعيم الذي لا ينازع للرواية التاريخية، كما كان واحداً من أكبر وأشهر رواد نوع معين من رواية المغامرات الغرائبية. ولئن كان شارل نودييه استفاد في ذلك الحين، حقاً، من قراءته بعض اجمل اعمال والتر سكوت، فإنه لم يكتف بذلك، في مجال التأثر، بل سجل في ذهنه وعلى دفاتره، انطباعات عاد بها من زيارة - وربما اكثر من زيارة - قام بها الى اسكوتلندا. وكان هذا كله، الى قراءته سكوت، الخلفية التي مكنته من كتابة هذه القصة التي اشتهرت كثيراً في حينه، وإن كانت تبدو منسية بعض الشيء في ايامنا هذه. > «تريلبي» في هذه الحكاية هو ذلك العفريت المهرّج الطيب الذي يكثر أمثاله في التراث الاسكوتلندي، من تلك العفاريت التي ينظر اليها هناك على انها حُماة الديار، في وقت كان فيه لكل دار عفريت من هذا النوع يحميها. لكن «تريلبي» كان مميّزاً بين أقرانه بأنه يفضّل على قصور السيدات الحسناوات، كوخ الصياد دوغال الذي يجني رزقه في بحيرة «بو». وهكذا يجعل «تريلبي» من نفسه حامي ذلك الكوخ. وحمايته له تتسم بالبراءة والتنزه عن الأهواء الشخصية، وإن عرفنا ان لدوغال زوجة حسناء هي جاني، سرعان ما نعلم ان العفريت مغرم بها حتى اعمق أعماقه. وجاني تحب الأعياد والاحتفالات وتزهو بكل ما هو غريب، لكنها في الوقت نفسه امرأة حكيمة عاقلة، لذلك حين يبدأ «تريلبي» بالإلحاح عليها بصورة فيها شيء من المبالغة، تجد نفسها مضطرة لإخبار زوجها، ومن ثم القبول بأن يأتي كاهن الرعية القاسي القلب والمعروف بالرعب الذي يشكله بالنسبة الى عفاريت اسكوتلندا كلها، لكي يمارس تعاويذه ويطرد العفريت من الكوخ. وبالطبع تنجح مساعي الكاهن رونالد ويرحل «تريلبي». ولكن رحيله يعني انتهاء سعادة دوغال وزوجته وعيشهما الهانئ: فدوغال لم يعد قادراً على ان يملأ سلاله بالسمك الذي كان في السابق يصطاده بوفرة، وجاني تشعر بالتدريج ان فؤادها ممزق وأنها غارقة في كآبة تحاول ألا تعرف اسبابها اول الأمر. وفي النهاية تعترف بأنها وزوجها غير قادرين على ان يعيشا بعيداً من ذلك العفريت. هنا يدرك الكاهن ما حدث ويبدأ بإلقاء لعناته على المرأة الحسناء. أما هي فلا تأبه له وتقرر ان تستعيد «تريلبي». غير ان هذا لم يعد قادراً على العودة الى الكوخ. فما العمل؟ بكل بساطة ستنضم جاني الى «تريلبي» ولكن خارج الكوخ، ولسوف يجمعهما الى أبد الآبدين موت مأسوي، وحده يحمل السعادة الى المرأة. > عندما صدرت هذه القصة للمرة الأولى في فرنسا، لقيت نجاحاً كبيراً وزادت من شهرة شارل نودييه، وإن كان القراء جميعاً يعرفون انها تنتمي الى حكايات تراثية معروفة تتحدث عن غرام الجن والعفاريت. وهي حكايات تعود الى التراث العربي والشرقي في شكل عام. غير ان المهم في ذلك كله ان شارل نودييه عرف كيف يحول تلك الحكاية من مجرد قصة تُروى لكي ترفّه عن السامعين، أو لكي تدرّ الدموع من أعينهم إزاء نهايتها الحزينة، الى درس في الأخلاق، كان حديثاً في ذلك الحين... ولربما كان نودييه بحكاية «تريلبي» وبغيرها من الحكايات، رائداً من رواده: انه الدرس الذي يقول ان «تريلبي» انما هو الرمز الجلي لذلك النوع من الأفكار التي تستحوذ علينا بالتدريج، ونتعامل معها باستهانة اول الأمر، لكننا سرعان ما نجد انفسنا غائصين فيها كلياً. «تريلبي» هو، وكما يقول بعض الباحثين في اعمال نودييه - من الذين يؤمنون بأن هذه الأعمال ليست، فكرياً، بريئة كما قد تبدو اول الأمر -، «تريلبي» هو تلك الخيالات وأحلام اليقظة التي يترك لها الإنسان المجال لكي تنمو وتكبر وتتكاثر داخل فؤاده، الى حد تتآخى فيه تماماً مع شخصيته، حيث يصبح راغباً في التضحية بكل ما يملك من اجلها. وذلك هو بالنسبة الى نودييه المعنى الحقيقي للحب والسعادة وللحياة نفسها. > وهذه الأفكار التي عرف شارل نودييه كيف يخبئها عميقاً في ثنايا حكايته، كانت هي هي، تملأ معظم اعماله الأخرى. فنودييه كان، في ذلك الحين، واحداً من الرومانسيين الذين سيكون لهم شرف افتتاح العصور الأدبية الجديدة. وهو، مثل غيره من الرومانسيين، بعيداً من عالم الواقع الذي كان يكبّله ولا يعطي اي معنى حقيقي لحياته، آثر ان يرمي بنفسه في عملية البحث عن كل ما هو لا عقلاني... خلف كل تلك القوى الغامضة التي هي، اصلاً، ما يحرك وجداننا في حقيقة الأمر. وكان من الطبيعي لنودييه، كما كان من الطبيعي لأقرانه من الرومانسيين، ان يبحث عن هذا كله في الحكايات الشعبية وفي تقاليد القص الشفوي، في ذلك الأدب غير الرسمي الذي كان «الهواء السري الذي يتنفسه عالم لينفخ الروح في رئتي طفولته». > وشارل نودييه الذي كانت قصة «تريلبي» واحدة فقط من حكايات وقصص داوم على كتابتها طوال سنوات نضجه، ولد في بيزانسون في العام 1780 ابناً لمحامٍ سرعان ما توسّم في ابنه نضوجاً مبكراً، فوجّهه نحو القراءة والكتابة باكراً. بل يُروى ان الفتى كان وهو في الثانية عشرة من عمره، عضواً فاعلاً في «جمعية اصدقاء الدستور». وهو كان في البداية من مناصري الثورة الفرنسية، ولكن حين تحولت الثورة الى سلسلة من اعمال العنف، خفّت حماسته الثورية... غير ان ذلك لم يمنع حياته كلها من ان تنطبع بالعنف وبالدماء، ويظهر ذلك في معظم اعماله. في سن الشباب، توجه نودييه الى باريس وقد آلى على نفسه ان يخوض معترك السياسة. وحلم بتحالف عجيب بين الثوريين اليعاقبة والملكيين ضد نابوليون. ونفي. وحين سقط نابوليون، عاد وعمل في الصحافة الليبرالية قبل ان ينصرف الى مناصرة الملكية. غير ان السياسة لم تلهه عن الكتابه، وارتبط بصداقة مع فكتور هوغو ولامارتين وسانت بوف وغيرهم. غير ان ارتباطه بالواقعيين لم يبعده من رومانسيته التي ظلت دأبه حتى النهاية. تحت شعار تلك الرومانسية كتب معظم اعماله، ومن بينها وأشهرها: «ساعة أو الرؤية» و«الميثاق الجهنمي» و «الجنّية المشتتة» التي ادخل فيها شخصية ملكة سبأ الحسناء بلقيس، و «حكاية الأخت بياتريكس» و «ليدي» وغيرها... وهو رحل في العام 1844 ليتحرر اخيراً من الشياطين التي رافقت حياته كلها.