×
محافظة المنطقة الشرقية

هلال يكسر الخاطر

صورة الخبر

«أنا مصنوع من الأدب.. ليس من أي شيء آخر سواه «، هكذا لخص فرانز كافكا نفسه في رسالة بعث بها إلى خطيبته التي عانت معه طويلاً، فيليس بوير. في إحدى يومياته يعيد التأكيد على تمحور حياته برمتها حول نتاجه الأدبي، «رغبتي في تصوير حياتي، الأشبه بالحلم، دفعت بكل الأشياء الأخرى إلى المرتبة الثانية. حياتي تلاشت إلى حد كبير وهي لا تتوقف عن التلاشي... ولكن لا شيء آخر يرضيني». كافكا ليس الكاتب العالمي الوحيد الذي أصبح أسيراً لأدبه، لكنه التزم هذه الصورة التي قدمها عن نفسه إلى أبعد الحدود. في أدب رثاء النفس، من «مرثيات» هاينرش هاينه إلى «اللامسمى» لصموئيل بيكيت، لم يكرس أي كاتب نفسه قط لتصوير هذا الكم من الأسى والظلام الذي يعتري حياته الخاصة، بزخم وقوة، كما فعل صاحب «رسالة لأب» و»المحاكمة». في سيرته الذاتية عن كافكا «السنوات الحاسمة» (عن دار برينستون)، يسعى الألماني راينر ستاك لتكوين معرفة وثيقة بالكاتب المنطوي على أدبه، فضلاً عن المرحلة الزمنية والأمكنة التي عاش وعمل فيها. يشير ستاك بثقة إلى أن كافكا تأثر طوال حياته، الخاصة والأدبية، بشخصية والده القمعية. في احد أقرب أعماله إلى السيرة الذاتية «رسالة لأب»، عزا كافكا فشله في الحياة الواقعية وهروبه إلى عالم الأدب، إلى شخص والده المستبد ذي المزاج السيء والطبع الحاد. وهو يعطينا صورة واضحة عن صراعه الداخلي مع ظل أبيه الذي يخيم على حياته حين يقول: « كان من شأن بعض الأمور أن تكون تفاصيل لا أهمية لها ولا تثقل على نفسي إلا لكونك أنك، وأنت القدوة بالنسبة إلي، لم تكن نفسك لتحافظ على الوصايا التي فرضتها علي، وبهذا أصبح العالم بالنسبة لي منقسماً إلى ثلاثة عوالم، في العالم الأول كنت أنا العبد، أعيش تحت قوانين وضعت لي وحدي لم أتمكن أبداً من الامتثال لها كلية، لا أدري لماذا. والعالم الثاني كان حتماً بعيداً من عالمي أشد البعد، حيث كنت أنت تعيش مشغولاً بإصدار الأوامر وبالغضب بسبب عدم امتثالي لها. وهناك العالم الثالث حيث كان يعيش بقية الناس سعداء بعيدين من الأوامر وطاعتها، بينما كنت أنا في عار على الدوام». يقول راينر ستاك إنه يتمنى معرفة «كيف يمكن للمرء أن يكون فرانز كافكا»، ليعود فيجزم أن «كل الجهود لا تكاد تقترب من تحقيق ذلك». يضيف:» تظل أقفاص معرفتنا به فارغة. ماذا تحقق من كل جهودنا؟، هل تعرفنا إلى حياة كافكا الحقيقية؟.. بالتأكيد لا. يمكن القول إننا اقتنصنا لمحة عنها، أو ربما نظرة مطولة إليها». هذا التواضع ليس كاذباً، وإنما في غير محله، إذ نشر ستاك حتى الآن مجلدين عن سيرة كافكا، واستغرقت أبحاثه أكثر من عقد من الزمن عن هذا الكاتب التشيكي. وكان الجزء الأول «سنوات التبصر» قد تناول السنوات في ما بين عامي 1910 و1915، عندما كان كافكا شاباً صغيراً يكتب من دون توقف طوال الليل. في كتابه، «كافكا: شاعر العار والذنب» (عن دار جامعة يال)، يحاول شاول فريدلاندر بدوره ملامسة أعماق كافكا، طارحاً حقيقة أن «اليوميات» و»الرسائل» التي تركها كافكا، تشير بوضوح كاف إلى أن القضايا التي عذبته معظم حياته كانت ذات طبيعة جنسية وليست فقط ذات روابط أبوية. يعزز فريدلاندر وجهة النظر هذه بإصراره على أن «الكتابة كانت ذات أولوية بالنسبة لكافكا، لكن القضايا الجنسية تحولت إلى وسواس يشغل حيزاً من حياته». حتى أن كافكا، وعلى رغم علاقاته الغرامية المتعددة مع عشيقاته، كتب في إحدى المرات يقول إن جسده «لا يصلح إلا للمواخير وبيوت الدعارة». وبرأي فريدلاندر فإن شعوره بالذنب والعار لم يكن مرتبطاً بالعلاقات الفعلية التي أقامها، إنما ببعض التصورات الفانتازية التي ربما تكون مثلية.   هوس الكتابة ما يطرحه الكاتب قد يولد الاستغراب وربما الاستنكار لدى محبي كافكا، ولكن من الحري الإشارة إلى أن فريدلاندر ليس كاتباً مبتدئاً يتعطش للشهرة عبر إثارة فضيحة جنسية أدبية، فهو أستاذ فخري في التاريخ في جامعة كاليفورنيا، كما أنه حاصل على جائزة بوليتزر لعام 2008، ويعتبر من أبرز المؤرخين المعاصرين. في الحقيقة، توصل فريدلاندر إلى ما كتبه بعد عثوره على إحدى يوميات كافكا التي تحدث فيها الأخير عن إعجابه بجسدَي شابين سويديين رآهما على الشاطئ وراودته عنهما تصورات جنسية، فضلاً عن صراعه لقمع مشاعره تجاه بعض أصدقائه الذكور، لا سيما صديقه ماكس برود الذي عهد إليه بتركته الأدبية. ما يعرفه الجميع أن كافكا كان قد طلب من ماكس برود حرق أعماله غير المنشورة كافة. فقد كان كافكا دائماً ما يحرق ما كتبه، أو يهدد بفعل ذلك، أو يطلب من الآخرين القيام بذلك بدلاً منه. لكنّ برود تجاهل توجيهاته تلك ونشر أعماله التي جلبت له الشهرة العالمية عقب وفاته. المفارقة، أن كافكا كان التقى خطيبته فيليس باور للمرة الأولى في منزل برود. أعجبته فيليس، وترجم إعجابه بها من خلال المواظبة على مراسلتها. في الواقع، كان يشعر بحاجة إلى الكتابة إليها أكثر بكثير من رغبته في رؤيتها. كانت امرأة لم تنتظر منه أكثر من كلماته. يسرد لها شكواه من كل ما يعتريه من قلق وخوف، هو الذي اشتهر بعصابيته وبتحويله أبسط الأحداث إلى مشكلات معقدة وكوابيس تطارده. اعتبر انه يجب ألا يحتفظ بشيء في داخله فربما أحبطه ذلك الشيء أثناء الكتابة. ولشدة تعلقه بالكتابة لها، قرر أن يتزوجها، لكنه طالما كان معروفاً بأنه يتخذ القرارات فقط ليتجاهلها. الواقع أنه عرض عليها الزواج ليمضي السنوات التالية وهو يحاول التملص من وعده وتنفيرها منه، تارة بالتشديد على أنه خلق فقط للكتابة ولا يسعه أن يكون أي شيء آخر (زوجاً أو أباً بالتحديد)، وطوراً باستغلال مرضه والإعراب عن شفقته عليها من الحياة معه. تمكن كافكا في النهاية، وبعد سنوات، من وضع مرضه كحد فاصل بينهما، رغم كل محاولاتها توسيط صديقة مشتركة بينهما لحثه على العودة إليها. رغم أن «الكافكوية» تحولت إلى مصطلح شائع يستخدم للإشارة إلى كل ما هو غامض ومظلم، غير أن لدى كافكا جانباً أكثر تفاؤلاً. ففي إجازة مع إحدى عشيقاته، شعر كأنه سوف يمرض من كثرة الضحك. وخلال جلسة أدبية، وبينما كان يقرأ إحدى رواياته الداكنة على حشد صغير، دخل في نوبة من الضحك لسخريته مما كتبه. وفي إحدى المرات التقى فتاة صغيرة أضاعت دميتها في الحديقة العامة، فأمضى ثلاثة أسابيع يكتب لها يومياً رسالة يسرد فيها مغامرات الدمية وما تفعله في الحديقة منذ اختفائها. كذلك، خلال علاقته مع عشيقته الأخيرة دورا دايمانت، كان لدى كافكا شعور بالثقة بأنه سوف يتزوجها. كانت هي المرأة التي اعتنت به في أواخر سنوات حياته وأحبته بطريقة صادقة للغاية. ووفق المصح الذي توفي فيه أثناء علاجه من السل، نهض كافكا في لحظاته الأخيرة من سريره على غير عادة، وشمّ باقة من الزنبق كانت دورا تجلبها له يومياً، قبل أن توافيه المنية عن عمر لا يتجاوز الـ41 سنة. آداب وفنون