القاهرة - لا يحتاج الروائي حسن هند الى تعريف ولا تحتاج نصوصه –على قلة عددها – الى تقديم، فقد حمل نصاه الاخيران مهمة تكاد تكون متشابهة، وهي كشف واقع الفساد الذي تغوص فيه مصر منذ سنوات ممتدة والاثر الاجتماعي له. فمنذ صدور "رخصة بغاء" 2008 التي جسدت بحرفية شديدة انحراف رجل الاعمال وصاحب النفوذ في المجتمع وتزكيته تحت مظلة القانون كي يرتقي ويستفيد من النظام. هكذا كان الدكتور عبدالوهاب المحامي المعروف هو آداة الدولة لتمرير القوانين التي من شأنها تحويل كل ما هو غير قانوني الى قانوني مما يشرع الابواب امام فساد منظومة العدالة الاجتماعية. وبمرور الزمن تصبح دولة القانون دولة بلا قانون يحكمها قانون الغاب فيأكل القوي الضعيف. ثم يطالعنا الروائي حسن هند بروايته الجديدة "محاكمة تنكرية" 2016 وهو ما يجعل قارئه يتسائل هل الفرق الزمني بين العملين الادبين هو ما جعل نصوصه محاكمة تنكرية تفيض بشخصيات متنوعة وثرية. ويسلط الكاتب الضوء على فكرة التوغل الغربي في الشأن المصري الذي يُقر ويدعم وجود الاستعمار الخفي الذي لا يستعمر ارضا، بل يكمن استعمار العصر الحديث في الاستعمار التكنولوجي والاقتصادي وفرض الحصار من الدول الامبريالية التي قررت بسط شرك العولمة بصورتها القصوى على الدول المهزومة غير المنتجة. وفي نص "محاكمة تنكرية" نجد طرفين ظالم ومظلوم والامر على تقليديته إلا ان تفاصيله تفيض بالكثير من التجديد في الكتابة وتمنح القارئ معارف كثيرة ومتنوعة في مجالات عديدة. وشخصيات النص منها الرئيسي وعلى قائمتها الدكتور عبدالمنعم الاستاذ الجامعي المحبوب، وزوجته السابقة السيدة سوزان محمد (المناضلة اليسارية المهزومة) ورجل الاعمال رشاد الصورة الكربونية من رجال الاعمال الدعاة الى توغل الرأسمالية المتوحشة وهو ايضا أداة من ادوات الغرب لحلب ثروات الوطن لصالح التوسع في الاستيراد على حساب احتياجات السوق المحلية وهو ما حدث جليا في مصر منذ ترسيخ نهج سياسة الانفتاح الاقتصادي انطلاقا من سبعينيات القرن الماضي . ويتم انتداب الدكتور عبدالمنعم الشخصية الرئيسية في النص للعمل في إحدى الوزارات خارج الجامعة، لكنه لا يدخر جهدا في كشف فساد تلك الوزارة السيادية لصالح أحد رجال الاعمال الذي لا يريد ان يبلع الوزارة فحسب، بل يريد ان يبلع اقتصاد مصر بأكمله. وعندما يكشف عبدالمنعم محاباة الحكومة لرجل الاعمال رشاد وتشجيعه على الاستثمار بما يضر البلد يتصدى لذلك، ويتحول من أستاذ جامعي له قامة كبيرة إلى شخص مُدان ومُعاقب طوال الحياة. هذا هو الصراع الاول والحقيقي بين الاستاذ الجامعي الذي ينبه الى تخطي رجل الاعمال للقوانين والعصف بها لصالح الغرب. ويقوم رجال الاعمال بالتحايل لمصلحة شركة ايطالية. ويكشف الرجل المثقف من موقع المسؤولية ذلك التلاعب –وبتحريض من رجل الاعمال رشاد – يعصف به خارج الجامعة ويتحول من استاذ جامعي مرموق الى متهم ومدان ومحاط بتحقيقات طويلة لا تنفك ان تنتهي إمعانا في محاصرته وعقابه مدى حياته. ولا يفصل في التحقيقات ولا في القضية التي يُدان فيها باقتدار بفضل حرفية المحقق كسبان الذي يكسب مودة الكبار على حساب ظلمه للواقعين تحت مظلة استجوابه. هناك شخصيات لا ادعي انها ثانوية او هامشية لكنها اقل في حجم السرد في النص بالرغم من فاعليتها كأدوات لتحقيق الهدف المنشود وهو طرد الدكتور عبدالمنعم خارج الجامعة وكذلك خارج المؤسسة التي انتدب للعمل فيها بعد اكتشافه داخل الوزارة الخطأ الاقتصادي الكبير الذي يهدر المال لمصلحة رجل اعمال يرغب في هيمنة الفساد الاداري والمالي على الدولة. وما عمران وعزيز وفكري إلا رأس الافعى التى تزج بالدكتور في دائرة مفرغة من التحقيقات التي لا تنتهي إلا الى كونه مدانا بغير عقوبة. ويخضع من تحقيق الى تحقيق الى ما لا نهاية فلا حكم ادانة ولا حكم براءة ولا عمل جامعي حتى يتحول الى مخلوق اشبه بشبح يحركه اليأس. وفي رواية "محاكمة تنكرية" للكاتب حسن هند نجده انتهج اسلوب تيار الوعي في الكتابة وهو الانسب للنص، فالاسترجاع سواء من الشخصيات –خاصة الدكتور عبدالمنعم- أو من الراوي المعرفي الذي يسترجع كي يقدم لنا زخما معلوماتيا، الاسترجاع هو سمة الحكي وكأن الماضي هو الحامل لكل الدلالات. وحياكة المؤامرة وضبطها تماما كي تلائم عبدالمنعم بوساطة المحقق كسبان، وعمران زميله وكذلك الدكتور عزيز رئيس الجامعة والدكتور فكرى، تلك المؤمرة التى حاكوها بحرفية ضد الرجل المثقف والنزيه بايعاز من رجل الاعمال رشاد ولمصالحه الشخصية وتنمية ثرواته على حساب استنزافه لثروات الوطن. تلك كانت الطامة التي عصفت بالدكتور وجعلته سجينا في سجن كبير هو سجن الوطن وكأنه صوت الحق الذي يرى فسادا يضر الصالح الوطني فيتصدى له ويصبح واحدا ضد الجميع وبالتالي يتم التنكّيل به ليتحول الى مسخ إنسان. وشخصية الدكتور عبدالمنعم الاستاذ الجامعي المكتوبة بدقة وحرفية شديدة ونبض ملموس لا تشعر القارئ انه غريب عنها، بل ان كل الشخصيات مكتوبة بإحكام لجعل قارئها يتفاعل معها ويشعر انها جزء منه او شخصيات يلتقيها يوميا لصدق رسمها. ويعتبر الدكتور عبدالمنعم ورجل الاعمل رشاد وجهان متضادان وضديتهما هي التى اوجدت قدراُ من ثراء النص. فوجود عبدالمنعم المرموق كأستاذ جامعي مؤثر في الاجيال التي يدرس لها، وصعود الرأسمالية برجل الاعمال رشاد كي يكون أداة للغرب الاستعماري. وكلاهما رحلة صعود لكن الفارق ان صعود الاستاذ الجامعي صعود بنَّاء لاجيال جامعية قد تنفع مجتمعها، بينما صعود رجل الاعمال رشاد تحت مظلة الغرب ما هو الا صعود وتوغل للنفوذ الاجنبي المتقدم ضد التخلف وتراجع الانتاج الوطني. فتصبح ثروات الوطن بوساطة رجل الاعمال لقمة سائغة للغرب وكلما ازداد الغرب توغلا في الوطن ونهبا لثرواته ازدادت ثروته ونفوذه. ويسلط الكاتب الضوء على تعاونه المشبوه مع الدول المحرضة له على حساب إفقار الوطن وتكاثر طبقات محتاجة لا يواكب دخلها ما يورد اليها من منتجات باهرة تغير وجه المجتمع الى المنحى الاستهلاكي. وان وجود شركات متعددة الجنسيات تتاجر وتستثمر في الوطن العربي صار أمرا واقعا لا محالة، لكن ان يتحول القائمون على هذه الشركات الى نهب ثروات الوطن العربي بآليات قانونية فهذا غير مقبول. وبنية التضاد في النص لا تقتصر على عبدالمنعم ورشاد فحسب، بل هناك شخصيات نسائية بينها تضاد ايضا. فالسيدة سوزان محمد الغنية التي تؤمن بمبادئ اليسار وتطنطن له مجسدة الصورة التقليدية لليسار المتشدق غير الفاعل وهو اسلوب سردته المناضلة اليسارية الراحلة اروى صالح في كتابها المهم "المبتسرون" واصفة اليسار المتكلم فقط الفارغ من مضمونه بأنه الكيتش النضالى، اي المناضل الهش الورقي الذي لا يمتلك سوى الكلام بلا فاعلية. الوجه الاخر لسوزان محمد سَمِيَّتها السيدة سوزان عزت الفقيرة (وواضح طبعا سخرية النص من الشخصية الثرية الفارغة من المضمون التي تتماس اسميا مع شخصية تحمل اسمها نفسه لكن البون بينهما متسع). سوزان عزت التي تكافح مع السيدة ام ابراهيم لمكافحة شظف العيش. سوزان شخصية استخدمها السرد كي تكون الوجه الآخر مقارنة بالسيدة (الهانم) سوزان محمد زوجة الدكتور عبدالمنعم التي ترفل في النعيم وتحاول ان تبدو مناضلة رغم انها متيقنة في قرارة نفسها انها تمثل الكيتش النضالي الذي لا يغير في المجتمع، بل ظلت المثقفة سوزان محمد تتكلم وتنتقد شفاهيا طوال حياتها مثل المثقف غير الفاعل الذي لا يفعل اي شئ سوى التنظير، مما يصيبها بمرض نفسي يضفي بظلال من الكآبة على حياتها، وتتستر وراء ذلك بالظهور كمذيعة تليفزيونية تتقن فقط لغة الكلام. واذا كان رجل الاعمال رشاد اداة لغرب استعماري يسلطه لنهب ثروات الوطن، فقد كان لابد من أد ة اخرى تعلوه وتسيّره لتنفيذ الدور المطلوب منه. تلك الشخصية كانت السيدة الايطالية "ستيفانيا" التي كتبت بداية حياتها سَلِسَلة رومانسية ناعمة لكنها سرعان ما تتغير طبقا للتغير العالمي الجديد. فبعد ان كانت فتاة تستمتع بسماع السرد المدهش لحكايات الف ليلة وليلة التي تدخلها إلى عالم اسطوري، تصبح سيدة تمثل الغرب الغازي للوطن بسيرة حياتها وعلاقتها برجل الاعمال رشاد. وتعتبرا معبرا مهما في النص حيث يتعرف عليها رشاد في اوربا ثم ما يلبث ان يحضرها للعمل معه فى مصر كي تكون جسرا للعلاقة الثنائية بين عائلات تتحكم في رأس المال في الخارج ووكلائهم في الداخل. المتكلم داخل الرواية و أسلوب السرد يجد القارئ في النص تداخلا واضحا بين الذات الساردة متمثلة في عبدالمنعم عندما يروي عن نفسه وعن حياته الشخصية مع الهانم سوزان محمد ومع من يحاكمونه خاصة بعد ان جمع معلومات عن نقائصهم الشخصية وفسادهم. ورشاد منذ نشأته في الاسكندرية ومن ثم بداية ارتباطه باعمال والده رجل الاعمال وطموحه الكبير في ان يتحول من اقتصادي يدير الاقتصاد المحلي الى اقتصادي يدير الاقتصاد الكوني . التداخل الثاني للراوي الحاكي (الذي كان يُدعى فى الماضي الراوي العليم) ومن ثم يتناوب السرد بقدر يسير مع الراوي البطل ثم يتحول الى الحاكي الشاهد الذي لا علاقة له بالحدث المحكيِ (النص الذي يرويه) إنه على معرفة بالاحداث من حيث هي أحداث داخلية ككل العلاقات التي يرفل فيها النص (علاقات عبدالمنعم النسائية/ علاقات عبدالمنعم الاستاذ الجامعى/علاقة رجل الاعمال رشاد كتوكيل داخل البلد او نائب عن من يتحكمون فى اقتصاد العالم /..). للمكان أيضا في النص جانب كبير من السرد الوظيفي للسارد الحاكي او للأبطال /الحكائين (د. عبدالمنعم استاذ الجامعة ورشاد رجل الاعمال) وذلك حسب الاسترجاع الذي يستخدمه السارد الحاكي (منطقة وسط البلد بالقاهرة/منطقة الاسكندرية التي نشأ فيها رجل الاعمال رشاد/ ايطاليا حيث منشأ ساتيفانيا قبل سحرها بالشرق ومن ثم انتقالها اليه/روسيا حيث دراسة الهانم سوزان محمد للحصول على درجة الدكتوراه التي لم تقدم لها شيئا أو مكانة في بلدها مصر/ الاحياء الشعبية /منطقة الامام الشافعى حيث حياة الفقراء (سوزان عزت/وام إبراهيم الخادمة) ومن ثم يعقد القارئ مقارنة لا شعورية بين من يسعون الى مزيد من البذخ والهيمنة ومن يموتون من الجوع من الفقراء. فاض النص بالكثير من الاستشهادات الشعرية فكان لأشعار محمود درويش وصوفية ابن الفارض وحكمة مولانا جلال الدين الرومي واشعار حلمي سالم وجمال فتحي ومحمود الحلواني ومحمد خير. فضلا عن صوفية الحلاج. وكان لتلك الاستشهادات فضل في تحقيق متعة كبيرة للقارئ واكتشاف الثقافة الابداعية للكاتب.