النسخة: الورقية - سعودي لأن كلماتنا تحمل ثنائية الطاقة والمعنى، فكل كلمة تحمل معناها المركزي ومعانيها المتطورة، كما أنها موجات طاقة يتأثر بها المتكلم والمتلقي. فحين أتحدث عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أنعتها بـ «الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد». هكذا أفهمها وهكذا أتمناها. ذلك أن الأصل هو البراءة والنزاهة. والفساد حالة طارئة. على نسق تراتبية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في القرآن الكريم والسنة النبوية. ووجود والفساد إنما ترجع حقيقته إلى غياب النزاهة، فإذا تحققت النزاهة فليس ثمة فساد (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، فالوعي هو التركيز على ما نريد. فتفكيرنا في ما نريد مقدم على التفكير في ما لا نريد، وهو ما سيبني في عقلنا الباطن وعياً يتابع بيقظة ذاتية نزاهتنا ويحفز عليها ويبرزها إلى واقع الحياة وممارسات الناس. لأن كلماتنا تحمل ثنائية الطاقة والمعنى فإن ذلك سيصنع تأثيرات متعددة، إذ تتأثر الفكرة العامة للهيئة، والاستراتيجيات التي تعدها وتنتهجها، والنظم والتشريعات التي تحكم سياستها. كما أن ذك سيصنع تأثيراً في نفسيات العاملين في هذا الحقل الوطني والإنساني العظيم باعتبارهم حماة النزاهة والشفافية. فالنفسيات الداعمة للنجاح لها إيقاع مختلف عن النفسيات التي تجعل صاحبها على إيقاع منزعج ومتوتر. هذه النفسيات سواء أكانت الداعمة للنجاح أم غير الداعمة، هي التي ستتفاعل مع مجتمع هي نتاجه العائدة إليه. وهي حين تختار صناعة النزاهة فستعمل على تناغم المجتمع مع مفهوم النزاهة. إذ سيعمل المجتمع بتلقائية وانسيابية لتعزيز المفهوم والزهو به والتعاون مع كل المخرجات التي تؤكده. وأنا عندما أكتب هذه المقالة فإنما هي احتفاء بالنزاهة في وطني وتعميق لقيمها في النفس الإنسانية التي تنشد الاستقرار والازدهار في آن واحد. الهيئة الوطنية «نزاهة» وعي حضاري في مجتمع يحقق نمواً اجتماعياً واقتصادياً متسارعاً. يتطلب مسارعة الفعل للفعل. ومقاربة الإنجاز للإنجاز، لأن تأخر الدور الرقابي في سقي بذور النزاهة واجتثاث أشواك الفساد يتيح الفرصة لتشكل الفوضى مما يصعب عمل الهيئة ويعوق التنمية في الإنسان أولاً ثم في المكان. إن ما تقوم به الهيئة وما ينتظرها لا يحصل من خلال الحديث الصحافي، وإنما من خلال الاطلاع على تقارير الأداء المدعمة بالإحصاءات والأرقام والوثائق، وهو ما يتطلب الشفافية التي هي أول قيم النزاهة. وهو الأمر الذي يدعو الهيئة إلى تبني نهج الشفافية وتحويله إلى ثقافة مؤسساتية لجميع أجهزة الدولة والمؤسسات الأهلية والخاصة في الرقابة المالية والأداء الوظيفي، إذ تمثل الشفافية ضمانة الجودة في العمل الرقابي. إن الشفافية قبل أن تكون أداة سياسية أو علماً في الإدارة والتنمية، فهي أساس في منظومة الأخلاق الإنسانية. ومن هنا كانت بوابة النزاهة ومدخلها الجميل. ولا يضيق بالشفافية إلا من لا يعرف النور في طريقه، ولا الوضوح في حياته. في مناسبة الحديث عن الهيئة الوطنية «نزاهة» أتمنى عليها أن تضطلع بعمل وطني كبير بأن تجري رقابتها على الجهات المقصرة في استكمال تشريعاتها وقوانينها الداخلية. فالتشريعات والنظم (القوانين) ضمانة للدولة وأمان للإنسان. وحين تنتظم التشريعات ويسود القانون ستكون الهيئة هي أول الغانمين، إذ ستكون مهمتها الرقابية وفق منطوق القانون وتفسيراته التنفيذية. بقي القول بأن مؤسسات النزاهة ومكافحة الفساد هي مؤسسات رقابية لا تحقيقية ولا عقابية. فهي تحققية لا تحقيقية، أي أنها تتحقق من عدم النزاهة وتكافح الفساد وقائياً وواقعياً، لكنها ليست الجهة التي تحقق في مجرياته وتطالب بإجراءاته الجزائية، وإنما ذلك مناط بجهة مختصة هي هيئة التحقيق والادعاء العام (النيابة العامة) التي يفترض أن تكون بها دائرة خاصة للتحقيق في قضايا الفساد من خلال قضاة التحقيق المتأهلين معرفياً في تشكلات الفساد وتطوراته. أما الجهة العقابية فهي العدالة القضائية من خلال المحاكم الإدارية (ديوان المظالم) والمحاكم الجزائية، التي يفترض أيضاً أن تكون فيها دوائر خاصة بقضايا الفساد في كل درجات التقاضي الابتدائي والاستئناف والنقض. كل ما تقدم أو بعضه يمكن أن يشكّل أوراق عمل مع الخبراء في النزاهة ومكافحة الفساد. مما يرتقي بأعمال الهيئة ومنجزاتها التي أرجو لها مزيداً من التوفيق والسداد. * عضو مجلس الشورى. alkatb111@hotmail.com