حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. لون غير معروف كتاب "المعمَّرون" ألفه أبوحاتم السجستاني المتوفى سنة 250هـ، 864م، ويصفه محققه عبدالمنعم عامر بأنه من أهم الكتب التي خلفها أبوحاتم السجستاني، فالكتاب في مادته الفنية لون غير معروف في أغراض الشعر الجاهلي، وهو جملة مختارة من الشعر العربي القديم قام بجمعها أبوحاتم من بطون الكتب القديمة، المعروفة في زمانه، وقد صار أمرها إلينا مجهولا، تمثل هذه المجموعات الشعرية فنا من الشعر الجاهلي وصف فيه الطاعنون في السن ما يلقونه من طول حياتهم، فرسموا بين سطوره أجسامهم وقد شفها الكبر، وأحلامهم وقد ذهب بها الضعف، وهم ينظرون إلى ما ورائهم فيذكرون أيامهم الخوالي. من أخبار المسنين 1 - قس بن ساعدة الأيادي، قالوا: عاش ثلاثمئة وثمانين سنة، وقد أدرك نبينا عليه الصلاة والسلام، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم حكمته، وهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ على عصا، وأول من قال أما بعد في خطبته، وكان من حكماء العرب. قال أبوحاتم: وذكروا أن وفد بكر بن وائل قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل فيكم أحد من إياد؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا: مات يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ يخطب الناس على جمل أحمر، وهو يقول "أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ثم قال: أما بعد، فإن في السماء لخبرا وأن في الأرض لعبرا، نجوم تغور، وبحار تمور ولا تغور، وسقف مرفوع ومهاد موضوع، أقسم قس قسما بالله وما أثم، لتطلبن من الأمر شحطا، ولئن كان بعض الأمر رضا، إن لله في بعضه سخطا، وما بهذا لعبا وإن وراء هذا عجبا، أقسم قس بالله قسما وما أثم، إن لله دينا هو أرضى من دين نحن عليه، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أنعموا فأقاموا أو تركوا فناموا". 2 - تيم الله بن ثعلبة عاش 500 سنة حتى أخلق 4 لجم حديد، وكان من دهاة العرب في زمانه، قال أبوحاتم: فبلغنا أنه بعث بنيه يوم في طلب إبل له ضلت، فهبت ريح بعدما خرجوا من عنده شديدة، وذلك في الشتاء، فقال لامرأته أم بنيه: انظري من أين هبت الريح؟ فنظرت ثم قالت: من مكان كذا وكذا، فقال لها: أخنتني في بني أم لا؟ فقالت: لا والله ما خنتك فيهم، فقال: ويحك، والله إني لأعلم أنها ريح تدهدي البعر، وتعفو الأثر، فلا يعرفون منطلقا، وأنها لتسوق مطرا فلا يعرفون أثرا، فإن رجعوا فإنهم بني، وإياي أشبهوا، وإن مضوا فلن تريهم أبدا، وقد خنتني فيهم، والله لأقتلنك إذن قبل أن يرجعوا. ثم لم يزل ليلة أجمع ما ينام وما تنام امرأته حتى إذا كان عند طلوع الفجر رجع أحدهم، فقال له أبوه تيم الله: ما ردك؟ قال هبت ريح تدهدي البعر، وتعفو الأثر وتسوق المطر، فلم أر منطلقا. فتتابعوا على مثل مقالته كلهم، ورجعوا إلى أبيهم، فسر بذلك، وقال أنتم بني حقاً وإياي أشبهتم. فلما حضره الموت أمر بنيه أن يحضروا قبره بمكان يقال له "حضن". وقال في ذلك: ها ذاك تيم الله يبني بيته بحضن حياته وموته