"البارحة؛ هاجت أشجان العمر كلها البارحة". كالأطفال حين يتجلّى لهم وجه أمهم بعد غياب طويل، يريدون أن يشكوا إليها كل العذابات، لهيب حنينهم، كَسَرات نفوسهم، غصص ضلوعهم، لكن ذاكرتهم تعجز عن ملاحقة ظلم الغياب، ويعقد ألسنتهم الكلام الصعب، فينهمرون في أحضان أمهم بكاء، بكاء سرّه في السماء. الله! يا آلاف الغصص، كم "جيزانية" من ذَهَبٍ تكسّر حلمها في الطب على عتبة ضيق الحال والأنظمة والمجتمع، فهي الآن في عمل ليس لها، أو هي الآن تنتظر "حافز" في المنتظرين. نعم، لكن ليست اللحظة لحظة الحسرات. البارحة؛ جيزان كانت كالأطفال، داهمتها الأشجان، الماضي والمستقبل والآن، لكن لم ترتبك رزانتها، ولم تتبعثر أناقتها. المستقبل وفي يدها مفتاحه الطموح بلا حدود، تناهيد الماضي ومكانها خزائن الروح حيث لا نسيان. أما الليلة فـ"سيدة القلوب" تفرغت لتتقن الآن. اختارت لفرحتها أجمل ركن في الدار، مدينتها الجامعية، "سهريّة" مفتوحة تحت سماء الله أمام مبنى السنة التحضيرية، جمعَتنا لنشهد كيف تفرح، ولنسمعها كيف تصف نفسها وهي تغني "في وطني امرأةٌ، أغنيةٌ وكلامٌ فصْلْ" كما تقول شاعرتها شقراء المدخلية، خريجة الجامعة وكاتبة أوبريت الاحتفال. الألمعي إبراهيم طالع وأنا، صوتنا مزعج في حديثنا العادي فكيف لو تحمسنا وانفعلنا؟! شعرت بالحرج حين غادر شاب هادئ مكانه بجانبنا، تابعته بنظري لأرى أين سيجلس، لكنه اتجه إلى منصة المسرح واصطف خلفه الطلاب يرددون قسم الطب العظيم، ثم رجع حسين عقيل عميد كلية الطب بذات الهدوء إلى مقعده بجواري!. 52 طالبة تخرجن من أصل 60 طالبة كأول دفعة طب نسائية. نعم نعم، هكذا تفصح "كنز الوطن" عن نفائسها وتضبط السقف على مزاجها. "باعدوا عن طريقنا، جنة الحب حقنا" الليل لها، عبر حناجر بلابلها وقصيدة شاعرتها: "غادةٌ تسري يناجيها النسيمْ وجهُهَا بدرٌ وممشاها كريمْ أينما ولّتْ فصبحٌ باسمٌ مولدٌ رحبٌ وإنجازٌ عظيمْ" جيزان البارحة أفصحت بإخلاص عن فرحتها بإثبات قدراتها بعد عذابات وانتظارات، أخلصت لأفراحها، فعلّقت عيوننا في أطراف وشاحها، وملأت الليل، تزغرد وتغني، ترقص وتجري، والدموع تسحّ بكحلها وهي لا تدري.