حطَّمت أولى المناظرات بين المرشحَين لرئاسة الولايات المتحدة في 26 سبتمبر/أيلول الماضي بإدارة مذيع "إن بي سي نيوز" ليستر هولت، الرقم القياسي من حيث عدد المشاهدين، مُسجلة 84 مليون مشاهد على التلفاز في الولايات المتحدة وحدها، حسب نظام تصنيفات نيلسين لقياس الجماهير، فضلاً عن 55 مليون مشاهدة مرتبطة بالمناظرة على موقع "فيسبوك"، و73.8 مليون منشور وإعجاب وتعليق من قِبل 18.6 مليون مستخدم في الولايات المتحدة. وفي هذه الأثناء، ينتظر المتابعون المناظرة الثانية في 9 أكتوبر/تشرين الأول الحالي بإدارة مذيعة "إي بي سي نيوز" مارثا راداتز، والمناظرة الثالثة في 19 أكتوبر بإدارة مذيع "فوكس نيوز" المخضرم كريس والاس، إضافة إلى المناظرة بين نائبَي الرئيس في 4 أكتوبر بإدارة مذيعة "سي بي إس نيوز" إلين كويجانو. اشتكى ترامب من كل جزء من المناظرة حسب "اسمي كريب"، محررة شبكات التواصل الاجتماعي في موقع "توكنغ بوينتس ميمو"، ووصفها بأنها "صفقة مزورة"، يقول ترامب إنه اضطر للمواءمة بين تحمّل مدير المناظرة هولت أحياناً، وبين مواجهته أحياناً أخرى، مؤكداً في تغريدة له أن نتائج كل استطلاعات الرأي تؤكد أنه انتصر في المناظرة. إلا أن استطلاعات الرأي هذه اتضح أنها ليست "سليمة علمياً"، حسب مذكرة لدانا بلانتون، نائبة رئيس أبحاث الرأي العام في "فوكس نيوز"، دعت فيها طاقم القناة إلى عدم تبني هذه الاستطلاعات، كما لاحظت بزنس إنسايدر أن مذيعين في "فوكس نيوز" مثل: شون هانيتي، ومارثا مكالوم، وبرايان كيلميد، استخدموا هذه الاستطلاعات دون الإشارة إلى أنها لم تتبع نفس منهج البحث المُتبنى لدى "فوكس نيوز" نفسها، مثل الاختيار العشوائي للمُستطلعة آراؤهم ولأرقام الهاتف بدلاً من أرقام الهاتف المُنتقاة. ومن ناحية أخرى، أظهر استطلاعان للرأي لهما سمعة جيدة نتائج مخالفة للاستطلاعات التي نشرها ترامب، فقد أظهر استطلاع "إن بي سي نيوز" و"مانكي بول" للاستطلاعات أن 52 في المائة من الأميركان رأوا أن كلينتون انتصرت في المناظرة، فيما أيَّد 21 في المائة انتصار ترامب، واعتقد 56 في المائة من المستطلعة آراؤهم في استطلاع لـ"رويترز" و"إبسوس" أن كلينتون كانت هي المنتصرة، في مقابل 26 في المائة لصالح ترامب. "التأكد من الحقائق" (fact - check) صرعة الانتخابات الأميركية شهدت المناظرة اهتماماً بكثافة غير مسبوقة من قِبل وسائل الإعلام والمدوّنين بالتحقق من صدقية المعلومات التي أوردها المرشحان خلال المناظرة، تمثل ذلك في تحقيقات وتقارير خبرية وتغريدات ومنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي أثناء المناظرة وبعدها، وحسب أحد هذه التقارير لراديو "إن بي آر" الأميركي كانت 16 من المعلومات التي ساقتها كلينتون خاطئة، فيما أورد ترامب 46 معلومة خاطئة، وعلى الرغم من الأهمية التي تبدو لأول وهلة لهذه الأداة، فإن المنهجية المتبعة من قِبل المتحقّقين من المعلومات كانت لسنوات محل جدل لم يُحسم حتى الآن. في تعليق له على مناظرات الحزب الجمهوري لنيل بطاقة الترشح للرئاسة في خريف 2015، رأى جيمس تارانتو، محرر عمود بيست أوف ذا ويب في وول ستريت جورنال، أن صحافة "التأكد من الحقائق" قد تُعزز التحزب غير الشريف، وفي تغريدة له بعد المناظرة الأخيرة، قال تارانتو إن "(التأكد من الحقائق) ما هي إلا صحافة رأي تتظاهر بأنها تراعي نوعاً من الموضوعية المتعالية"، وتعزو كيلي ريدل، الكاتبة في "واشنطن تايمز" اليمينية، ذلك إلى أن معظم المتأكدين من الحقائق هم صحفيون ليبراليون يحاولون إثبات تصوراتهم المسبقة من خلال انتقائية محضة. ترى مؤسسة راسموسن ريبورتس المتخصصة في الرأي العام أن معظم الناخبين يعتقدون أن لمؤسسات الإعلام تفضيلاتها في ما يتعلق بالتأكد من الحقائق الواردة في تصريحات المرشحين، إلا أن التشكيك بهذه الوسيلة أكثر انتشاراً بين مؤيدي ترامب منه بين مؤيدي كلينتون، وقد أظهر استطلاع للرأي للمؤسسة نفسها أن 29 في المائة فقط ممّن يرجّح أنهم سيصوّتون في الانتخابات القادمة يثقون بعملية التأكد من الحقائق، فيما يرى 62 في المائة من الناخبين أن مؤسسات الإعلام تحرف الحقائق لتساعد المرشح الذي تدعمه، ويعتقد 88 في المائة من الناخبين الداعمين لترامب في السباق الرئاسي أن مؤسسات الإعلام تتلاعب بالحقائق، فيما يثق 59 في المائة من الناخبين المؤيدين لكلينتون بالتأكد من الحقائق الذي تجريه وسائل الإعلام، ولا يثق 79 في المائة من الجمهوريين و69 في المائة من الناخبين غير المنتمين لأي من الحزبين الرئيسيين بحيادية وسائل الإعلام تجاه المرشحين، الأمر الذي يوافقهم عليه 40 في المائة من الديمقراطيين. واقعياً، تلتزم كل مؤسسة إعلامية خطاً تحريرياً محدداً من قِبل مالكيها، ومع ذلك، كشف الإقبال على عملية التحقق من البيانات انتباهاً لمظهر كالح للسياسة بشكل عام وللسياسة الأميركية بشكل خاص، وهو الاستشهاد بمعلومات خاطئة، ويمكننا القول إن إخفاء الحقائق أو الكذب الصراح بات مسألة جوهرية يرجّح أن ينتبه لها المرشحون في المناظرات القادمة، وقد يكون لها أثر في المشهد السياسي برمّته. يتناول الجزء المتبقي من المقالة أحد الآباء المؤسسين لظاهرة قبول الكذب الصراح في الولايات المتحدة، مؤسس شبكة "فوكس نيوز" ومديرها السابق الذي خرج منها بفضيحة تحرش جنسي كلفته عشرات ملايين الدولارات، مستشار دونالد ترامب في المناظرات روجر إيلز. روجر إيلز مستشاراً لترامب ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في أغسطس/آب الماضي أن روجر إيلز أسدى لترامب نصائح بشأن المناظرات الرئاسية، في إشارة إلى أنه أصبح مستشاراً له، سارعت حملة ترامب إلى نفي أي صلة مع إيلز بشأن المناظرات الرئاسية، مشيرة إلى أنهما صديقان، لكن صداقتهما ليست لها علاقة رسمية أو غير رسمية بحملة الانتخابات الرئاسية، وأكدت مديرة الحملة كيلي آن كونوي أنها لا تملك أي معلومات تؤكد مساعدة إيلز لترامب في التحضير للمناظرات. إلا أن "نيويورك تايمز" أكدت بعد المناظرة أن جهوداً كانت تجري بقيادة إيلز على شكل معسكر تدريبي لمساعدة ترامب في المناظرات في ملعب الغولف الذي يملكه في ولاية نيوجيرسي. ترامب لم يقوَ على التركيز كثيراً أثناء المعسكر، حسب عدد من الأشخاص الذين لم يصرحوا بهوياتهم للصحيفة، مما أدى إلى ضياع الوقت في أحاديث إيلز عن قصص معاركه السياسية ومشكلاته الشخصية. وفي الواقع هذه القصص بالتحديد هي على قدر كبير من الأهمية لترامب، فإيلز مستشار سياسي مخضرم، ولكن من نوع خاص. لعقود مضت كان روجر إيلز شخصية مؤثرة في سياسات الحزب الجمهوري، فقد كان مستشاراً ومخططاً استراتيجياً للرؤساء الجمهوريين ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج بوش (الأب). كمستشار إعلامي للرئيس نيكسون، صمّم إيلز برنامجاً تلفزيونياً بعنوان "ذا نيكسون آنسر" أو جواب نيكسون، يجيب فيه نيكسون عن أسئلة لجنة من الخبراء. ذكر الكاتب الأميركي جو مكغينيس في كتابه "بيع الرئيس" أن إيلز أمر بتعيين "نيغرو" أو عضو أسود واحد في اللجنة، وقال: "تباً.. لا يمكننا أن نضع اثنين من هؤلاء"، أما الصحفيون فلم يكونوا محل ترحيب في البرنامج. ذكر المؤرخ والصحفي الأميركي ريك بيرلستين في كتابه "نيكسونلاند: صعود الرئيس وانقسام أميركا"، أن إيلز شتم الصحفيين، وقال: "هذا ليس مؤتمراً صحفياً، إنه برنامج تلفزيوني، برنامجنا التلفزيوني"، ويبدو أن هذا البرنامج نموذج مصغر لقناة "فوكس نيوز" التي أنشئت لاحقاً. سنّ إيلز سُنّة تهرب المرشحين للرئاسة من الإجابة عن الأسئلة في المناظرات من خلال السخرية، في حملته للترشح للدورة الثانية للرئاسة في عام 1984، عيّن الرئيس ريغان "إيلز" مستشاراً له في المناظرة الرئاسية. ورداً على سؤال حول كونه الرئيس الأكبر سناً للولايات المتحدة، قال ريغان: "لن أستغل لحاجات سياسية صغر سنّ مُنافسي وقلة خبرته"، بعد هذه العبارة، لم يُطالب مدير المناظرة ريغان بإجابة السؤال، واكتفى بضحك الجمهور لينتقل إلى السؤال الآخر، لم تعُد هناك حاجة لتقديم إجابات صريحة على الأسئلة في المناظرات الرئاسية، انظر إجابات ترامب في المناظرات. وبعد أربع سنوات، وكمستشار رئاسي لحملة ترشح جورج بوش (الأب)، نظّم إيلز مناظرة على الهواء مباشرة جلس فيها خلف الكاميرا أمام بوش حاملاً لوحات تحمل إجابات مساعدة لبوش، مكّن ذلك بوش من قول ما يلي: "من غير العادل أن تحكم على مسيرتي السياسية كلها بمجرد تغيير للسياسة تجاه إيران، ماذا تقول إذا حكمت على مسيرتك المهنية" من خلال فعل مجتزأ؟ لم يجدد مدير المناظرة طلب الإجابة من بوش، وهكذا تفادى بوش سؤالاً عن مسألة جوهرية مثل السياسة تجاه إيران. انظر أيضاً تفادي ترامب بمهارة الإجابة عن أسئلة جوهرية عن السياسة الخارجية. دونالد ترامب تتويج لإرث مملكة إيلز "فوكس نيوز" أن يكون مستشاراً لترامب هو الميناء الأسود الذي كانت تتجه إليه المسيرة المهنية لروجر إيلز، فليست أرض عجائب السياسة التي يعيش فيها ترامب، وتصريحاته التي تنشر الذعر والعنصرية بين الأميركان إلا زبدة سموم بدأ إيلز بنشرها منذ سنوات طويلة، ومهمته كمستشار لترامب ليست صعبة على ما يبدو حسب سامنثا بي مذيعة البرنامج اليوتيوبي فُل فرونتال، فهو لم يكن بحاجة إلى زيادة ذكاء ترامب بالنظر إلى أنه أمضى الأعوام العشرين الماضية في إقناع الأميركان ببغض الأذكياء. منذ بروز أوباما كمرشح واعد للرئاسة الأميركية في مطلع عام 2007، بدأت "فوكس نيوز" برئاسة إيلز بنشر فرضيات المؤامرة؛ أولى هذه الفرضيات أن باراك أوباما كان مسلماً تلقى تعليمه في صغره بـ"مدرسة" (madrassa) مسلمة؛ حيث نال اسمه الأوسط "حسين"، هذه المدرسة -حسب "فوكس"- كانت تُعلّم "الوهابية" بتمويل من "السعوديين"، وبعد توليه الرئاسة، بدأت "فوكس نيوز" بنشر تحذيرات مما وصفته بأنه اعتذارات قدمها أوباما لعدد من الدول في جولاته حول العالم، مستثيرة نزعة سمو الأميركي وعنفوانه الذي لا يليق به الاعتذار، كأن الولايات المتحدة لم تكن مسؤولة موضوعياً عن أي من الأزمات في العالم. وصفت "فوكس نيوز" أوباما بأنه "الرئيس البلطجي" (thug in chief)، كلمة (thug) بمعنى بلطجي لها مدلولها في أميركا، فقد استخدمها مجازاً مغنو الراب السود -وأشهرهم توباك صاحب العبارة الشهيرة "thugs life"- في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي للتعبير عن سخطهم تجاه العنصرية في الولايات المتحدة؛ حيث كانوا يصورون حياتهم القاسية تحت عنوان "حياة البلطجة"، مستعيرين وصف "البلطجي" الذي كان يطلقه بعض العنصريين على السود. كما قالت "فوكس نيوز" إن البيت الأبيض بعد دخول أوباما تحول إلى «hood» بمعنى حي سكني، أو هي كلمة يستخدمها السود كذلك مجازاً للتعبير عن الأحياء التي عاشوا فيها معاناة الأميركي الأسود. نظريات المؤامرة، ونزعة سمو الأميركي، والأوصاف العنصرية، وغيرها من أفكار "فوكس نيوز" أصبحت أبجديات حملة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، ولا يدل اتساع القاعدة الشعبية الداعمة لرئاسة ترامب إلا على نجاح أجندة "فوكس نيوز" ورواجها. الحزب الجمهوري يعمل لدى "فوكس نيوز" لم تمثل أفكار "فوكس نيوز" دائماً قيادة الحزب الجمهوري، إليكم هذا التصريح من زعيم الحزب الجمهوري بعد 9 أيام من أحداث 11 سبتمبر/أيلول: "أود أن أوجه كلامي اليوم إلى المسلمين في أنحاء العالم، إننا نحترم معتقدكم الذي ينتمي إليه ملايين الأميركان، وملايين آخرون في دول صديقة للولايات المتحدة، تعاليم الإسلام خيّرة وتدعو للسلام، وهؤلاء الذين يقترفون الأفعال الشريرة باسم الله، يشوهون اسم الله". هذا التصريح للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، في وقت هو الأفضل لانتهاز الفرصة لبث أفكار الإسلاموفوبيا، إلا أن هذا لم يكن توجه قيادة الحزب الجمهوري في ذلك الوقت. فكيف تدهور الحزب من تلك اللحظة التاريخية إلى ما هو عليه الآن؟ الجواب ببساطة؛ لأن "فوكس نيوز" برئاسة إيلز جعلت النيل من المسلمين أمراً جيداً لدى المشاهد الأميركي بترويجها للإسلاموفوبيا لسنوات طويلة. على سبيل المثال، حوّلت "فوكس نيوز" باميلا غيلر، التي كانت مجرد مهووسة بالإسلاموفوبيا، إلى نجمة تلفزيونية تحذر من بناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي في المنطقة التي شهدت أحداث 11 سبتمبر (Ground zero) وتصفه بأنه "الموجة الثانية من أحداث 11 سبتمبر". لم تتجاوز ردود مذيعي "فوكس نيوز" على غيلر عبارة "أتفق معكِ 100 في المائة"، وانتشرت على شاشة "فوكس" عبارات: "لا مسجد هنا، لا الآن ولا في المستقبل"، على الرغم من أن التعديل الأول للدستور الأميركي يكفل حرية التدين وممارسة الشعائر لكل المواطنين الأميركان. يقول ديفيد فروم، كاتب خطابات الرئيس بوش سابقاً: "اعتقد الجمهوريون في الأصل أن فوكس تعمل لديهم، لكننا نكتشف الآن أننا نعمل لدى فوكس". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.