إن العيش تحت ظل الاضطهاد والهزيمة والخنوع يكسب بشكل تلقائي سمات نفسية وتطبعاً يغلب عليه المسكنة والركوع والخنوع، وقد فصل في هذا الإخصائي باولو فريري في كتابه تعليم المقهورين. كما ذكر الله في كتابه الحكيم مجموعة صفات وأشكال للمقهورين، ولعل أشهرها قصة بني إسرائيل. دخل بنو إسرائيل مع استقرار إخوة سيدنا يوسف بمصر، لكن بعد طرد الهكسوس من مصر وتملك ملك طيبة أحمس رع، لتبدأ محنة بني إسرائيل في السخرة، ولتزداد قساوة بعد رؤية الفرعون أن ملكه سيذهب على يد طفل من بني إسرائيل، فيذبح فيهم ويقتلهم، إلى أن أرسل الله إليهم نبيه موسى ليخرجهم من مصر نحو فلسطين، فيستقرون حسب العديد من الروايات بأرض سيناء، بعد رفضهم دخول الأرض المقدسة. صفات هذا الجيل المقهور المستعبد الذي عاش عقوداً في ظل القهر والذل والهوان، لم يبصر نور الحرية إلا بعد قدوم موسى عليه السلام، من أهم صفاته وسماته: السلبية والاستسلام وهذا يظهر من خلال صبرهم على السخرة والهوان والذل والتقتيل والإرهاب وفي قوله جل وتعالى: "وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب" وحتى في أثناء الصراع بين فرعون وموسى لم تقم لهم قائمة، ولم ينتفضوا أو يزمجروا ضد هذا الحيف الذي دخله موسى من أجلهم. حتى وبعد بلوغهم أرض فلسطين لم يظهروا أي وجه للشجاعة أو الإيجابية، فعندما دعاهم موسى لدخول الأرض المقدسة قالوا في قوله تعالى: "قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون". انتقاص الذات الصفة الثانية هي عدم الثقة في النفس وانتقاص القدرات الذاتية، بسبب ما عاشه قوم موسى من عقود الاضطهاد والذل، فحتى عندما دعاهم موسى لدخول الأرض المقدسة، رفضوا رغم وعد الله بالنصر المؤزر، فقال تعالى في سورة البقرة: "ادخلوا عـليهـم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، لكن جوابهم كان مخيباً ويعكس طبيعتهم النفسية وما تطبعوا عليه طوال عقود: "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يقول باولو فريري في هذه النقطة إن المستضعف يصدق كذب جلاده، إنه ضعيف وناقص ودوني ولا يستحق الحرية، وإنه لا يمتلك صفات التمتع بها، وإنه مهما حاول فسيظل الفرق بينه وبين اليابان ملايين السنوات الضوئية، وعقليته أقل من الخلق الآخرين. الافتتان بالظالم فرط العيش في الظلم يجعل المستعبدين لا يرون أحداً يصلح لقيادتهم أو تسيير أمورهم غير الظالم نفسه، ولا يرون سبيلاً للحكم إلا في تقليده في ظلمه، فأوضح القرآن الكريم في صورة جميلة تصف مستضعفي بني إسرائيل حين تمنوا لو يصبحون كقارون الذي بغى عليهم: "وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر". الخوف من الحرية على الرغم من أن موسى كان يحمل هدفاً سامياً وهو تحرير بني إسرائيل، فإن الذين تبعوه قلة من قومه وأغلبهم من فئة الشباب الذين لم يعيشوا عقود القهر والحرمان والاستعباد "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم"، بل حتى نفر من قوم موسى كانوا ضده وحاربوه في دعوته. باولو فريري يقول إن المضطهد في هذه اللحظة يكون قد تعايش مع الوضع القائم وأصبح لصيقاً به، وخوفهم من التغيير أن يكون أسوأ من وضعهم الحالي ومن مستقبل مظلم "أحسن من أن نصبح كسوريا والعراق". التدين المشوه الأصل أن بني إسرائيل كانوا على ملة يعقوب، لكن طوال سنوات الاضطهاد والقهر والجهل جعل إيمانهم مشوهاً ويشهد على هذا طلبهم من موسى "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون"، وقوله تعالى: "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم"، وحتى عندما اختار موسى سبعين رجلاً من قومه قالوا له إنهم لن يؤمنوا حتى يروا الله جهراً. الطغيان على الأقران يشرح باولو فريري هذا بأن المضطهد إذا ملكته بعضاً من السلط على أقرانه أو حتى جماعته صار أكثر قسوة عليهم من الحاكم نفسه، ويشرح هذا بانطباع صورة الظالم على صفاته وحبه التقليد الأعمى للمستبد. ويتضح هذا في محاولة بني إسرائيل قتل هارون بعد أن ولاه موسى عليهم "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء"، ولم يستطيعوا رفع أصواتهم في وجه الفرعون وهو يقتل أطفالهم وأبناءهم. عدم الصبر ويتضح هذا بشكل جلي في قوله تعالى: "أعجلتم أمر ربكم"، وقوله تعالى: "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد". الانقياد للإعلام ويشرح هذا الانقياد كالقطيع وراء ترهات الإعلام ويصوره الله تعالى في قوله: "فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار"؛ حيث استطاع السامري في لحظات أن يغوي بني إسرائيل لعبادة العجل: "فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي". ذل النفس سعى موسى بكل قوته إلى أن يوفر ما استطاع لبني إسرائيل "وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"؛ حيث منَّ عليهم الله بعسل المن وطيور السلوى وهي أشبه بطيور السمان، إلا أن بني إسرائيل لم يكفهم ما قدمه الله عز وجل، فقالوا لموسى: "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإنَّ لكم ما سألتم". هذا جيل الاضطهاد الذي يعيش اليوم، سلبي، منعدم الثقة في نفسه، مفتتن بالظالم، يخاف من الحرية، مشوه للدين، متعدٍّ على إخوانه، متعجل غير صبور، دنيء النفس، هذا الجيل هو الذي أعيا موسى فلم يجد معهم حلاً "قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فهل نحن نفس هذا الجيل؟ وهل تنطبق علينا قواعد الجيل المضطهد؟ وهل من تشابه بين هذا الجيل الذي عايش موسى وبين أجيال الشعوب العربية؟ يبقى لكم التخمين والكلمة.