لقاءات وزيري الخارجية الأميركي والروسي المتكررة بشأن القضية السورية تطرح كثيرًا من التساؤلات، ولعل أولها: هل رجع العالم إلى الوراء وأصبح يتحكم في مصيره قطبان كما كان؟ هل عادت الحرب الباردة من جديد بعد أن كان عالمنا هو عالم القطب الواحد المتمثل في القطب الأميركي؟ وأكثر من ذلك تأمل الشعوب في القرن الجديد أن يصبح عالمنا بعيدًا حتى عن عالم القطب الواحد، وتُفعَّل فيه دور المنظمات العالمية، خصوصًا الأمم المتحدة، والمبادئ التي قامت من أجلها في نشر الأمن والسلم العالميين، والتأكيد على حقوق الإنسان، وأن يكون لمجلس الأمن دور حقيقي ويسود عالمنا تطبيق القوانين الدولية، ولا تصبح حبرًا على ورق، خصوصًا ونحن في عصر العولمة، وأن تُحلّ المشكلات الدولية مثل الفقر والأمية والبطالة في الدول الفقيرة. كل ذلك كان أمنياتنا في بداية القرن الحادي والعشرين. وإذا بنا نفاجأ بحدوث العكس، حيث ظهرت أحلاف وتكتلات دولية جديدة ومتصارعة، وأهمها بروز الدور الروسي الذي أصبح ينافس الدور الأميركي، وهذا ما ظهر جليًا في التدخل الروسي في سوريا، وما قد يترتب عليه من سقوط لنظام القطب الواحد، وبروز دول وقوى جديدة تتمتع بقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ضخمة مثل إيران وتركيا، مما قد يؤدي إلى إعادة تقسيم النفوذ وتغيرات مثل قيام نظام دولي قد يكون نظام القطبين أو نظام الأقطاب المتعددة، وما قد يتبع ذلك من تداعيات كبيرة على الدول في المنطقة الحليفة لواشنطن، وهذا سيتم في حالة نجحت روسيا ومحورها في حسم الصراع في سوريا. الذي يدعونا لطرح كل هذه الاحتمالات هو تدخل روسيا بثقلها في سوريا، وذلك لأن سوريا تمثل آخر موقع استراتيجي في العالم لها يطل على المياه الدافئة، خصوصًا بعد هزيمتها في أفغانستان، عندما كانت دولة عظمى تسمى «جمهوريات الاتحاد السوفياتي» الذي تفكك، وبذلك فإن سوريا تمثل لها الأمل في عودة دورها كقطب دولي، ومثلما أن أميركا حريصة على بقاء إسرائيل قوية، لأنها هي التي تقوي موقفها كدولة عظمي وتحمي مصالحها في الشرق الأوسط، فكذلك سوريا بالنسبة لروسيا، ولذا لن تتخلى روسيا عن نظام الأسد لآخر رمق. وما يحدث في الواقع في حلب لهو أكبر دليل على ذلك، ولذا تنص الاستراتيجية التي وضعتها موسكو على «الاندماج في العولمة ضِمن شروط قومية روسية محدّدة، مع الدعوة إلى تغيير الهندسة العالمية والإقليمية الرّاهنة، في اتجاه إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب». إن مستقبل الصراع في سوريا، سواء تحدد من خلال المسار السياسي أو العسكري، هو الذي سوف تنتج عنه ولادة نظام عالمي جديد بديل عن النظام القطبي الأوحد، إذ إن أميركا التي تورطت في حربها بالعراق، وفشلت في تحقيق مهمتها، أعاد لها ذلك ذكرياتها الأليمة في حربها في فيتنام وهزيمتها، ولذا لم يعد بمقدورها قيادة العالم، خصوصًا بعد تمدد سرطان الإرهاب ووصوله إلى العالم الحر. هذا الإرهاب الذي يقوده «داعش» زاد من حاجة أميركا إلى حلفاء، ولذلك أنشأت التحالف الدولي للقضاء على «داعش»، وهو التحالف الذي لم ينجز مهمته إلى الآن، بل على العكس، أصبح الإرهاب يغزو أميركا وحلفاءها الأوروبيين في عقر دارهم، وذلك ما زاد الطين بلة. أصبح عالمنا اليوم على مفترق طرق؛ فإما أن تستمر هذه الصراعات بين التكتلات، وبذلك يعود العالم كما كان قبل الحرب العالمية الثانية، حيث كان عصر الأحلاف والتكتلات الدولية والصراعات فيما بين الدول، وإذا ما استمر العالم على ذلك، فإن هذا الوضع يؤذن بتفجر الوضع وقيام حرب عالمية ثالثة يُعاد فيها رسم خريطة العالم من جديد، ومحور التغير سوف يبدأ من المنطقة العربية، وما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتضامنها مع السياسة الأميركية إلا أحد المؤشرات التي تدل على ذلك، وإما أن تتم حلحلة الوضع في سوريا وإيجاد حل يتفق عليه الجميع. ولذا على الدول العربية، خصوصًا ذات الموارد الاقتصادية والقريبة من مناطق الحروب في العراق واليمن، أن تراجع سياساتها الخارجية، ولا تظل تراهن على القطب الواحد الأميركي، مهما كانت المصالح التي تربطها بأميركا، وعليها أن تقيم تحالفات جديدة مع دول الشرق الآسيوي الأقصى، مثل الصين وكوريا الجنوبية، وتعمق علاقاتها السياسية والاقتصادية مع هذه الدول، خصوصًا بعد أن تأكد أن أميركا تتجه إلى الانكفاء على الداخل، وهي لا يهمها إلا محاربة الإرهاب، وهي على استعداد للتخلي عن أصدقائها في أي لحظة، وما موقفها من كثير من القضايا العربية وتخليها عن حلفائها إلا أكبر دليل على أن من يراهن على أميركا أصبح الآن كمن يراهن على جواد خاسر. خلاصة القول إن العقلاء في العالم ينشدون حل المواقف المتأزمة، في العالم، حتى تأخذ الحلول السياسية دورها، وإلا فالعالم يسير في طريق مظلم!