لسبب ما، لم يستطع هو نفسه على الإطلاق تفسيره أو تبريره، كان «البورتريه» الذي رسمه الإسباني الكبير بيلاسكويث للبابا اينوتشنتي العاشر، واحداً من الأعمال الفنية الكلاسيكية التي شُغف بها الفنان الإنكليزي فرانسيس بيكون أكثر من أية لوحة أخرى. شغف بها الى درجة أنه «نسخها» وطورها وأعاد نسخها عشرات المرات وليس خلال مرحلة واحدة من حياته، بل طوال سنوات، بدأت أواخر الأربعينات حيث كان دائماً ما يعاود رسمها من جديد مع تغييرات طفيفة جداً بالكاد كان يمكن إدراكها في بعض الحالات. فهل تعرفون ما هو الأكثر غرابة في الأمر؟ كون بيكون لم يشاهد اللوحة الأصلية ولو مرة واحدة في حياته. لم يفعل ولم يكن يريد أن يفعل. وكذلك لسبب لم يستطع لا تفسيره ولا تبريره. بل حتى خلال زياراته العديدة الى روما حيث كان يعرف أن مكان وجود اللوحة (كاليري دوميا فامجيل) لا يبعد عن مكان إقامته سوى بضعة كيلومترات لم يكلف نفسه الانتقال اليها. رسمها نقلاً من منسوخات ومن الذاكرة. ومع هذا يبقى سؤال مهم: هل هو رسم حقاً نسخاً من لوحة بيلاسكويث؟ وهل إن الشخص الماثل في لوحاته العديدة يمكن أن يكون حقاً البابا إينوتشنتي العاشر؟ ليس هذا مؤكداً حتى وإن كان قد قيل دائماً أن لوحة الرسام الإسباني الكلاسيكي الكبير ما إن انتهى هذا من رسمها وعرضها أمام البابا حتى صرخ هذا الأخير مندهشاً: يا إلهي كم تشبهني! فالحقيقة أن بيلاسكويث كان في إمكانه هو الآخر أن يصرخ أمامها: يا إلهي كم تشبهني! وبالتالي لا شك في أن بيكون نفسه بعد مئات السنين كان من شأنه أن يرى بدوره أن منسوخاته من لوحة سلفه الإسباني تشبهه هو نفسه أكثر مما تشبه بيلاسكويث أو البابا. ترى أولم يكتب «سيّد» الرواية الموضوعية الباردة في القرن العشرين، آلان روب غريّيه في نهاية حياته «أنا في نهاية الأمر لم أكتب في رواياتي إلا عن نفسي»؟. في الحقيقة أن ما نقوله هنا قد يبدو، الى حد ما عادياً في مجال نظريات الفن. لكنه في هذا العمل بالذات يتخذ بعداً مضخماً ينبع من شخصية بيكون نفسه. ويجعل المرء في حيرة أمام بعض الحقائق المتعلقة بهذا العمل الذي راح بيكون يكرره مرة بعد مرة عاماً بعد عام في وقت كانت ذاتيته المفرطة تجعلنا نتوقع غرقه في عشرات البورتريهات الذاتية يرسمها ويمضي حياته متأملاً إياها! > مهما يكن من أمر، مع لوحات بيكون هذه قد يكون علينا أن نتقبل الأمر كما هو لنبحث دائماً عمّا رآه في لوحة من لوحات بيلاسكوث اشتهرت بقيمتها البرانية: حضور البابا فيها بقوته وجبروته وسلطته، فيما لن يجد بيكون حين يحاكيها سوى إمكانية رسم صرخة على شفتي رأس الكنيسة تجمع بين الألم والرعب والشفقة والإحساس بالنهاية. وكأن الرسام حمّل الصراخ الذي لطالما جعله أساسياً في لوحاته كتعبير عن شرط إنساني تمزيقيّ كان لا يفتأ يجعله موضوع تلك اللوحات وجعله على وجه الحبر الأعظم سائلاً إياه عن معنى هذا الشرط وعما إذا كان في وسعه أن يفسّر هذه السيرورة. ونعرف أن هذا كان همّ بيكون وسؤاله، ومصدر سحره أيضاً. > ونعرف أن كتّاب العشرين ورسّاميه لم يولعوا برسام، ولعهم بفرانسيس بيكون. فهم ومنذ وقت مبكر، أدركوا، على حد تعبير ميشال ليريس، ما في لوحاته من بعد معاصر، ومن شاعرية تلوح من خلال شفافية الأشكال المشوهة التي سكنت تلك اللوحات من بداياتها، وكذلك أدركوا ما يريد ذلك الرسام الذي يختلط لديه المرح بالمأساة، أن يقوله، من خلال شخصيات تملأ فضاء اللوحات وتحيل المكان الذي ترسمه اللوحة الى قضبان تحيط بالشخصية وتأسرها من كافة الجهات. > للوهلة الأولى، تبدو لوحات فرانسيس بيكون وكأنها تنتمي الى ذلك «الكابوس السعيد» الذي تم الحديث عنه دائماً لمناسبة ذكر فيينا بدايات هذا القرن، فهي من الناحية الشكلية قد تبدو شبيهة ببعض أعمال اوسكار كوكوشكا، وقد يرى البعض قرابة ما بين جيمس آنسور وسوتين من جهة، وبين بيكون من جهة ثانية، غير أن هذا ليس إلا للوهلة الأولى، لأن تأملاً دقيقاً لعوالم فرانسيس بيكون ومتابعة متأنية لمساره الفني سيجعلاننا نرى فيه شيئاً مختلفاً تماماً، هذا إذا وضعنا جانباً قوته التقنية، التي تجعل أي لوحة له تبدو أشبه بمتاهة خطوط وألوان تحتاج أكثر من نظرة قبل إدراك ماهيتها متكاملة. > فرانسيس بيكون الذي رحل عن عالمنا عام 1992 بفعل أزمة قلبية نتجت من نوبة ربو ألمّت به، في شكل مفاجئ، كان، حين وفاته لا يزال في قمة عطائه، على الرغم من انه كان يومها في الثالثة والثمانين من عمره. فهو ولد العام 1909 في دبلن بإرلندا، من والدين إنكليزيين. وكان الصبي في الخامسة من عمره حين انتقلت الأسرة لتقيم في لندن، غير أن ذلك لم يمنع فرانسيس وبقية أقرباء الأسرة من التنقل منذ ذلك الحين بين لندن ودبلن، ما جعل وعي الفتى يتفتح على عالمين ثقافيين سوف يتكاملان لديه لاحقاً. في العام 1925 وكان فرانسيس في السادسة عشرة، حصل خلاف عنيف بينه وبين والده دفعه الى ترك الأسرة في شكل نهائي متخذاً قراره بأن يصنع مستقبله بنفسه وبأن يكون مستقبله فنياً، وكان قد اكتشف الأدب والرسم قبل حين واطلع في شكل جيد على أعمال الرسامين الألمان والهولنديين. ولقد تلت ذلك ثلاث سنوات (1926 - 1928) تنقل فرانسيس خلالها بين برلين وباريس، حيث اكتشف، الى جانب الرسم، فن السينما بخاصة لدى بونيال وايزنشتاين ثم اكتشف السورياليين وأعمال المصور ساندر الفوتوغرافية، ولكن بخاصة لوحة «مجزرة الأبرياء» لبوسّان التي لن تبرح خياله بعد ذلك أبداً، وستكون واحداً من الأسس التي بني عليها فن الرسم لديه الى جانب لوحة بيلاسكويث. > في تلك الآونة كان بيكون قد بدأ يرسم، وكانت لوحاته بدأت تلقى ترحيباً من لدن السورياليين الفرنسيين. وراح يرسم بكثرة ويشارك في معارض جماعية ويرتبط بصداقات مع شعراء رسمهم مثل فيليب سوبو وميشال ليريس، كما مع فلاسفة من أمثال جورج باتاي اكتشفوا الأبعاد الفلسفية للوحاته. لكن بيكون، ورغم إعجاب المثقفين بأعماله، كان لا يفتأ يعبر أزمات خلق مرعبة. ولقد قادته واحدة من تلك الأزمات لأن يدمر كل لوحاته، ما عدا عشر لوحات آثر استبقاءها. وكان ذلك في العام 1941. بعد ذلك، بقي بيكون منكباً طوال عشرة أعوام على محاولة العثور على مفتاح جديد لإبداعه، وهكذا توصل في نهاية سنوات الأربعين الى اكتشاف «قارة تعبيرية جديدة» - وفق تعبيره - هي وجه الإنسان وجسده. ومن هنا كانت تلك السلسلة من اللوحات التي أوصلت شهرة فرانسيس بيكون الى الذروة طوال النصف الأول من الخمسينات، والتي كان موضوعها الأساسي، وجوه الأشخاص. وكان يرى أن أفضل الوجوه التي يمكن له ان يرسمها انما هي وجوه الشعراء والفلاسفة، وهكذا راح يرسم أصدقاءه في لوحات، كان يقول أن مثله الأعلى في رسمها كان الصرخة العنيفة التي تطلقها المدرّسة في أحد أقسى مشاهد فيلم «الدارعة بوتمكين» لسيرغي ايزنشتاين، أي الصرخة نفسها التي نجدها في لوحات «البابا اينوتشنتي». > في العام 1957 أقيم أول معرض استعادي للوحات فرانسيس بيكون في باريس وكان رد الفعل عليه محبذاً، بخاصة أنه كان - بالنسبة الى النقاد - مدخلاً لعودة الفن البريطاني الى الساحة بعد غياب، على الرغم من أن بيكون اعتبر نفسه، دائماً، أوروبياً قاريّاً، اكثر منه بريطانياً. وبعد باريس، كان دور الولايات المتحدة لتكتشف أعمال بيكون في 1963. أما باريس فلقد عادت وخصّته بمعرض شامل لأعماله في «الغران باليه» (القصر الكبير) أدخله مباشرة عالم كبار «كلاسيكيي القرن العشرين» ومنذ ذلك الحين وحتى وفاته في 1992، ظل فرانسيس بيكون بمثابة الابن المدلل للحركة التشكيلية في العالم، وصارت لوحاته من أشهر ما رسمه فنان بريطاني خلال القرن العشرين، اذا استثنينا زميله ديفيد هوكني، البريطاني الآخر الذي لم يقل عنه شهرة وأهمية في القرن العشرين ثم لاحقاً لوسيان فرويد صديقه وحفيد مبدع التحليل النفسي الشهير.