×
محافظة المنطقة الشرقية

القاهرة .. السيسي لن يحضر جنازة شيمون بيريز

صورة الخبر

ذات مرّة، في السنة الأولى من الثورة في تونس، سألتني صديقة أختي الصغرى، وقد كانت ضيفة عندنا، عن معنى أن تكون مدوّناً وعن السبب الذي يجعل الإعلام يدعوه بـ"المدوّن" وليس "الكاتب" كما جرت العادة.. ووجدتني أجيبها - دون تفكير - بأنّ "المدون يكتب ليتنفّس" وهذا ما يميزه عن غيره من الكتّاب الذين يمارسون ترفاً فكرياً قصد مزيد من الإصلاح. "قصدت: ليحارب الاستبداد ويفضح الفساد.. ولم يكن صعباً عليها أن تفهم المعنى، حيث عشناه جميعاً"، ولكنّني وبعد 3 سنوات، أدركت معنى آخر للتدوين.. وغايةً أخرى سارعت يوم 11 يناير/كانون الثاني 2016 نحو غرفتي لأدوّنها، وها أنا الآن افتتح بها تدوينتي هاهنا: المترو كما عادته، في حدود الساعة الثالثة، هادئ وشاغر إلى حدّ ما، كنت أجلس على الكرسي القريب من الباب.. مرهقة من وتيرة امتحانات أبت أن تنتهي.. أحاول أن لا أفكّر في شيء.. حتّى رأيته، ليس صديقاً أبت الأقدار أن تجمعنا.. ولا رفيق قضيّة ومشروع.. ولا أقل من هذا ولا أكثر، هو أمرٌ مختلفٌ تماماً.. كان منبّه ذاكرة قد تجسّد في ملامح رجل.. وأنا لا أنسى الملامح -كما الكلام المنطوق- أبداً، هكذا ودون مقدّمات تلاشت جدران المترو، وتفسَّخَت ملامح الركّاب ليبقى وجهه وحده، بتعبيرات أخرى وزمان ومكان آخر: الحَرمُ الجامعي.. قلب جامعة العلوم بالمنستير.. أيام حكومة الغنوشي "الوزير الأول لبن علي، مباشرة بعد هروب المخلوع" صراخٌ وتوتّر وصوتُ دقّات قلبي أقوى من أي صوت آخر وخمسةُ شباب يصرخون من بعيد: "قلها تنحّي التليفون..قلها تنحّي التليفون.. فكهولها.. فكّلها التليفون.. بعّدها الطفلة.. تي شدّها".. "شباب يطلبون من آخر إبعاد فتاةٍ ونزع هاتفها"، وصرخات هستيريّة،.. وهذا الشاب يقف بجانبي، كان ملتزماً ومهذّباً على حّد سواء.. لم أكن أرى وجهه، كنت أرى يديه ترتعشان "أماني يعيّش أختي.. يعيّش أختي" "يترجّى".. حاول منعي من الذهاب.. وقف أمامي.. حاولت تجاوزه.. مدّ يده ليمنعني أو ليفتكّ الهاتف "لا أدري".. صحت: سيّبني "اتركني". أتذكّره كيف تراجع وهو يضمّ قبضتيه إلى مستوى ذقنه: "يا ربّي.. يا ربّي"... وألقى بنظره إلى وِجهتي.. حيث شاب قد رفع القميص عن صدره أمام عنصر ملثّم من وحدة مكافحة الإرهاب "أو هكذا ظننّاها حينها" قد أثنى ركبته ومرّر يده على سلاحه نحو الزناد وعيناه مغروستان في صدر الطالب الجامعي الذي لم يتوقّف عن الصراخ بصوت مجروح ممزّق ما زال محفوراً بذاكرتي.. إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها: "اضرب.. -هكذا ودون انقطاع - .. اضرب.. اضرب..اضرب..". كنت أحاول أن أوثّق الكرامة المسفوكة التي قد تُختَم بالدم.. تجاوزت الفتى واقتربت من المجرم أحاول أن أوثّق عينيه من وراء اللثام.. علّنا نتعرّف عليه إن أنا دوّنت نظرته، وكان الأخير يصوّب سلاحه نحو الفتى وينظر إلى من اقترب منه حتّى لم يبقى بيننا أكثر من مترين. كنت أعلق بصوت مسموع متشنّج على الفيديو "اتفرجوا كيفا يقتلوا في أولادكم.. مش يقتلوا على خاطر فاق.. مش يقتلونا على خاطر نحبّوا نعيشوا كالعباد..." وكنت أعلم أنّه قد يمحي هذا الأثر برصاصة أو قد يكسر الهاتف دونما جهد.. المسافة كانت تسمح وقبضتي الصغيرة لن تغيّر من الأمر شيئاً. الآن أعترف أنّني لم أكن أوثّق الأمر.. كنت أحاول إخافته..هكذا وبكلّ سذاجة ودونما حرج، فكّرت أنه سيرهب إن رآنا نتحدّى الموت.. سيرهب إن رآنا نحقد على القتلة ونبحث عن ملامحهم.. وكان يجول بخاطري ما لا تجسّده اللغة.. وكان يحدث ما هو أكبر من الأضواء العامة. مرّت أجزاء الثانية كسنوات طويلة.. حتّى رأيت رأس الملثّم ينثني فجأة على إيقاع صرخته.. أحد الطلبة قد باغته من بين الأشجار بحجر وأطلق للريح ساقيه.. أظلمت عينا الملثّم غضباً وقفز يجري على أثر الفتى وهو يقول كلاماً لا أسمعه.. انهار الشاب الذي كان يكشف صدره للموت على الأرض..انتبهت فيما بعد أنّه قد فقد وعيه. صادَفَت تلك الثانيةُ دخول زميلي الملثم من باب الجامعة.. لمحا المشهد.. ما زلت أذكر كيف رفع أحدهما قبّعته "لم يكونا مقنّعين" وهوى بها على الأرض حقداً وجرى ممسكاً بسلاحه وهو يقول كلاماً لا أسمعه، لم أكن أسمع غير أنفاسي ترتعش بشكل مخيف: يا رب، يا رب.. لحق ثالوث الموت بالفتى وأمسكوا به.. كفى. أحاول أن أقتلع نفسي من دوّامة الحادثة.. أن أستعيد توازن الزمن ، الشاب ما زال غير بعيد عنّي في المترو يتحدّث إلى الهاتف.. فكّرت في إلقاء التحيّة ولو من بعيد.. انتبهت أنّه قد لا يتعرّف إليّ.. أجال بصره في المكان ولم ينتبه لوجودي..قد مرّت 4 سنوات على الحادثة.. خسرت خلالها ما يقارب رُبع وزني.. وتغيّرت بعض الشيء.. صرت أكثر غضباً وأكثر وجعاً. ولكنّه لم يتغيّر.. سروال مقصّر.. لحية معتدلة الطول.. وبصرٌ يغضّه عن كلّ شيء.. فُتح الباب فجأة، عبره الشاب نحو الخارج.. لم يكن يكفيني الوقت لأتذكّر اسمه حين هجمت عليَّ الذكريات، لم يكن يكفيني الوقت لأتذكّر كلّ التفاصيل.. ولكنّه كان يكفي ليذكّرني بأنّنا كنّا نصرّ على رفض عودة أزلام النظام إصرارنا على الحياة، وأنّنا كنا مستعدين أيام القصبة 2 "اعتصامٌ لإسقاط رموز النظام.. الباقين إلى اليوم" لخسارة أعمارنا مقابل أن يحيا الحلم دون ظلم ولا ظَلَمة.. كان الوقت يكفي ليذكّرني أنّ الداخليّة التي حاولت أن تجهض الثورة وشبابها أمس، تطلق علينا أبناءها اليوم وتأمل أن تحقّق ما لم تستطع تحقيقه بالأمس.. وأنّ المخلصين في وزارة الداخليّة ما زالوا ضعيفي الصوت.. أمام فساد البوليسية.. فساد النظام. وصلت إلى منزلي وصوت داخلي يتعالى ببطء وثقة: أنّه علينا أن نتسلّح بالذاكرة.. وأن نخاف على سلاحنا من الصدأ: تعالى الصوت حتّى تجسّد فيما أكتبه الآن، رسالةً إلى أبناء المبدأ والمؤمنين بالتغيير. إنّنا إن تركنا للظالمين رقابنا.. سنقرأ بعد سنوات قليلة كتاباً مدرسياً يدرَّسُ لأبنائنا، مكتوباً فيه: قد خرج التونسيون ومِن ورائهم مختلف أجزاء الأمة في مختلف الدول العربية، لأجل وجبةٍ ومنزلٍ ووظيفةٍ.. وأنهم قد كانوا يسفكون دم أبنائهم لأجل الدينار.. لا لأجل التحرّر ولا الخروج من عبودية الاستعمار. سنقرأ ما هو أبشع من هذا إن تركنا للجياع والصبايحيّة وأبناء الخوف الساحة شاغرة.. وثّقوا ثورتنا، وثّقوا موقفنا من الظلم ووجوه الظَلَمة.. وثّقوا الحقيقة.. حتّى لا ينسيهم إعلامهم المبدأ.. وذكّرونا كي لا ننسى فنَضعُف. ذكّرونا أن الإصرار على الأمل عبادةٌ.. وأنّه علينا أن نحفر الطريق إلى التحرّر بأظافرنا إن أعجزتنا الأساليب. قد كان هذا المعنى الثاني والأهم للتدوين: أن نوثّق التاريخ وحقوقنا فلا تضيع مستقبَلاً كما ضاعت في الماضي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.