في مشهد تتداخل فيه اغتيالات وتفجيرات واجتياحات وحروب أهلية، عادت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى الواجهة بعدما كانت دُفنت واعتبرت في عداد الموتى. فبين حملات التخوين والتسخيف التي طاولتها من جهة، ومسلسل التأجيلات والاستقالات التي شابت عملها من جهة أخرى، تحوّلت المحكمة إلى مجرّد سطر في بيانات وزارية فارغة، لم يعد أحد يتوقعها وإنّ كان يموّلها الجميع. وكانت تلك المحكمة «الأميركية - الإسرائيلية»، وفق معارضيها، قد انضمت في الآونة الأخيرة إلى هذا الصنف الخاص من الكائنات السياسية التي برع إعلام «حزب الله» في اختلاقها، وهو صنف يمزج بين الخطر الوجودي وحتمية هزيمته، بحيث يشكّل فشله انتصاراً آخر للمقاومة. لكنْ، على رغم كل الحملات التي طاولتها، من حادثة «العيادة النسائية» إلى مرافعة سيد المقاومة وتدقيقه بانعطافات طرق لبنان، استمرت المحكمة في عملها، لتصبح اليوم واقعاً من الصعب تجاهله، وجزءاً أساسياً من المشهد السياسي اللبناني. بيد أنّ هذه المفاجأة - المتوقعة أتت متأخرة ومبكرة في آنٍ، وهي تنطلق في ظروف سياسية تغيرت جذرياً عما كانت عليه الأمور لحظة تأسيسها. فشروط عمل العدالة، الرمزية والسياسية التي كانت متوافرة بعض الشيء عند انطلاق التحقيق، باتت اليوم مفقودة، ما يطرح بعض الأسئلة حول فعاليتها وفعالية مبادئها. فإذا شكّل اغتيال ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٥ صدمة أخلاقية في مجتمع لم يكن معتاداً آنذاك على عمليات القتل الروتينية، بات الوضع اليوم مغايراً، حيث تمّ الانتقال من حالة الصدمة حيال القتل إلى عملية التكيّف معه وصولاً إلى الابتهاج به، إنّ لم يكن المطالبة به. وإذا بدا ممكناً آنذاك تخيّل بناء إجماع سياسي - جنائي على تحويل نظام الأسد وملحقاته الأمنية إلى كبش فداء، فهذا ما بات اليوم فرضية معدومة مع تعمق الخلاف السياسي ليصبح أشبه بحرب إلغاء ذات أبعاد وجودية. في هذا المعنى، إذا كان منطق المحكمة الجنائي يناسب تلك الأيام القليلة التي تلت الاغتيال المؤسس للمحكمة، فمنطقها أصبح اليوم خارج السياق السياسي الذي سبقه بأشواط، محولاً مجرمي الأطراف المتصارعة إلى أيقونات سياسية لا تُمسّ من جانب أي محكمة، لبنانية كانت أو دولية. كذلك تأتي المحكمة متأخرة ومبكرة في نتائجها المعروفة سلفاً، وهذا من دون استباق التحقيق أو تسييسه أو استغلاله «الرخيص»، على ما يقول إعلام الجريمة. فوجهة الاتهام باتت معروفة، وإن كانت التفاصيل تنتظر التحقيق، ومن المستبعد أنّ تنقلب هذه التهمة، حتى لو استطاع محامو الدفاع إثارة بعض الشكوك ببعض قراراتها الإجرائية. فالمحكمة آتية لتؤكد ما يعرفه الجميع وما بدأوا يتعايشون معه بطرق مختلفة، خصوصاً أن هذا يجيء بعد مرحلة بات فيها المتّهم متّهماً بجرائم قد تفوق الجريمة المؤسسة للمحكمة وتجعلها تفصيلاً بالمقارنة مع ما ارتُكب بعدها أو ما يُظنّ أنّه ارتُكب. فبين جريمة ١٤ شباط ٢٠٠٥ واليوم، هناك عدد من القتلى، وهناك التمزق و «التشبيح»، والأهم ظهور حرب أهلية قيد التنفيذ تجعل الاغتيال الأول وما أحاطه من خطابات وفاقية لحظة تشبه لغة «التعايش الوطني» قياساً بتوزيع البقلاوة أو القنص على شارع سورية الذي بات يلي كل خلل أمني. كما فقدت المحكمة فعاليتها السياسية أو المؤسستية مع اضمحلال القوى المطالبة بها أو الدولة التي يفترض أن تكون شريكتها. فهي قد تكون عائدة من الموت ولكنّها آتية إلى أرض ميتة، لن يعيدها إلى الحياة قرار قانوني حول من قتل أو فجّر أو خطط أو حرّض. وقضية ميشال سماحة خير دليل على فقدان الأداة القانونية لأي فعالية في لبنان. في هذا المعنى، إن لم ينجح خصوم المحكمة في شلّ عملها، فإنهم نجحوا في ضرب المجتمع الذي يكتنفها، لتصبح مؤسسة تطفو فوق الصراعات من دون فعالية. وهذا لا يعني أنّها مجرّد تكرار لواقع ولّى أو تلبيس قانوني لصراعات طائفية. ذاك أن فقدانها كل فعالية قانونية أو سياسية لا يعني أنّ عملها يمضي بلا أثر. ففي محاكمة الاغتيالات التي امتدت من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١٣، هناك حقبة من تاريخ لبنان الحديث التي سيتّم تشريحها وفضحها على الأقلّ في شقيها القانوني والأمني. وفي الحد الأدنى، ستقدّم المحكمة، في هذا الجانب، صورة مصغّرة عن تقنيات الحكم في حقبة الوصاية السورية، ونظرة إلى عملية ضرب المؤسسات والروابط الاجتماعية التي تشكّل ماضي حربنا الجديدة، وإن كانت غير مكتملة كونها تطاول أيضاً جزءاً من منظومة هذا الحكم. بكلام آخر، سيصطدم الخطاب السياسي المائع ببرودة اللغة القانونية ليفضح كيف أصبحنا ما أصبحنا عليه. ولهذا الاصطدام المتلفز أثر لن يستطيع أحد الهروب منه، مهما خوّنه أو سخّفه. وقد يشكّل هذا البحث في تقنيات الحكم مدخلاً لإعطاء المحكمة معنى آخر لن يظهر إلّا بتسييسها. فالغوص في تقنيات القتل وخفاياه مقدمة لمحاكمة أكبر، غير جنائية هذه المرة، هدفها فهم حيّز من حاضرنا وليس البحث عن قاتل معزول. وهذا المفهوم للمحكمة وعدالتها ليس إجرائياً أو مطلقاً، بل هو سياسي يهدف إلى كشف بعض خفايا تاريخ حاضرنا، ما قد يفيد في إعادة التفكير بنظامنا وقيمنا. وإذا كان هناك من معنى للمحكمة، فهو في هذا العمل التسييسي لمسيرتها الجنائية وفي استعمالها كفصل من كتاب التاريخ الذي لم يكتب. خارج تسييس كهذا، ستبقى المحكمة وبحثها عن القاتل مناسبة لطرح سؤالين: الأول، وهو سؤال ١٤ آذار، مفاده إمكان العيش مع شريك وطني متهّم بالقتل. أما الثاني والموجّه إلى «حزب الله»، فقد يكون أهم، وهو يطرح إشكالية العيش في محيط يعتبره قاتلاً. وقد يكون تسييس المحكمة اليوم أقل كلفة من الإجابة عن هذين السؤالين. غير أنّ من بات مدمناً للانتصارات، قد يفضل الموت في سورية على الإجابة عن سؤال لم يختره له مسؤوله الإعلامي.