لربما اعتقد الكثيرون أن الجريمة الإرهابية البشعة التي أرتكبها التونسي محمد لحويج هلال بحق ما يقرب من مئة إنسان سحقهم عمداً تحت عجلات شاحنته في مدينة نيس بينما كانوا يحتفلون بالعيد الوطني لأهم ثورة في تاريخنا المعاصر، الثورة الفرنسية، ليست سوى عملية انتقامية لـ «داعش» على هزائمه الأخيرة، في حين أن البيئة التي هيأت ممارسة مثل هذه الجريمة الإرهابية في فرنسا هي ليست وليدة اليوم، وهي بيئة أخذت تتشكل على الأقل منذ نحو ثلاثة عقود، وتتعلق في جانب رئيسي منها بإشكالية في اندماج العرب والمسلمين في المجتمع الفرنسي حتى بلغت أوجها في وقتنا الراهن، مع أن هجرة العرب والمسلمين ليست وليدة السنوات والعقود القليلة الماضية، بل تضرب بجذورها إلى القرن التاسع عشر الماضي، وغدت اليوم قضية شائكة وعلى درجة كبيرة من التعقيد، بالنظر للتطورات الأمنية الأخيرة التي شهدتها الساحة الفرنسية، ولعل مسألة الاندماج ترتبط بثلاثة أبعاد متشابكة لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، الأول يتعلق بدور الدولة الفرنسية بتوفير فرص العيش الكريم والعمل للفرنسيين من اُصول عربية على قدم المساواة مع سائر الفرنسيين على اختلاف أعراقهم، وكذا سائر الخدمات والحقوق العامة المكفولة دستورياً وتشريعياً، والثاني هو دور توعوي ثقافياً ودينياً بحيث يمكن تحصين الشباب الفرنسي من اُصول عربية من سموم وآفات الأفكار المتطرفة والإرهابية ، وهذه المسألة لا تتحملها الدولة فقط، إذ تلعب النخبة السياسية والثقافية والدينية المعتدلة ذات الثقافة المستنيرة، أياً تكن انتماءاتها الفكرية دوراً محورياً لما يتركه صراع الهوية والأنشطة الإرهابية من ارتدادات سلبية على هذه النخبة العربية الأقدم في فرنسا وعلى أبنائها وأحفادها. ويُعد علي بلغيث، التونسي الأصل ، من الشخصيات الفرنسية المرموقة التي لها وزنها المؤثر داخل فرنسا على الأصعدة التعليمية والثقافية والسياسية، «الوسط» التقت به قبل فترة وجيزة من عملية نيس الإرهابية على هامش مشاركته في المؤتمر الدولي للغة العربية، وحاورته في جملة من القضايا التي شكلت مجتمعةً عناصر البيئة الإرهابية التي وجد تنظيم « داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية ضالته فيها، وفي مقدمة هذه القضايا، تعقيدات وإشكالية اندماج العرب في فرنسا، وبخاصة من قِبل الشباب الذين باتوا يشكلون النسبة الأكبر من العرب، أسباب وقوع مجاميع كبيرة منهم في براثن الجريمة والإرهاب، مسئولية الدولة الفرنسية في انتشالهم من البيئات الخصبة التي تسببت في انحرافهم، الدور الغائب الملقى على النخبة الفرنسية العربية المثقفة والمتعلمة تعليماً عالياً في جذب واحتواء أولئك الشباب من سن الطفولة وإبعادهم عن المؤسسات الدينية غير المحصنة من اختراق فيروسات التطرف والإرهاب من خلال تأسيس مدارس علمية مستقلة تأخذ بعين الاعتبار تربيتهم على هوية جامعة مركبة لا تصطدم مع موروثهم الديني واللغوي، بل المحافظة عليهما بصورة معتدلة دينياً وتعليمهم العربية بمناهج علمية متطورة. وفيما يأتي نص الحوار : %70 من سجناء باريس عرب ومسلمون لعل الجمعية العربية للتأهيل والتربية التي تترأسونها وكان لكم شرف تأسيسها من أهم الإنجازات التي نذرتم أنفسكم لتحقيقها في فرنسا على الصعيد التربوي والتعليمي في أوساط الفرنسيين من أصل عربي و الجالية العربية عامة ... هل لكم أن توضحوا لنا كيف راودتكم فكرة تأسيس هذه الجمعية؟ وكيف جاءت بدايات انطلاقتها؟ - راودتني فكرة التأسيس منذ العام 1996 ، بدافع الغيرة على هويتنا القومية العربية في فرنسا، إذ وجدت في فرنسا العديد من المدارس الخاصة بلغات عالمية كالإنجليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية واليابانية، في حين تكاد لا توجد مدارس عربية، على الرغم من أن العرب الناطقين بالعربية في العالم العربي يقترب عددهم من الـ 400 مليون نسمة، علماً بأن كل الدول العربية تقريباً توجد لديها سفارات في باريس، كما يوجد نحو 4 ملايين عربي من الفرنسيين الذين ينحدرون من اُصول عربية أو ضمن الجالية العربية المُقيمة في فرنسا، أما عن نسبة العرب في باريس فإذا ما احتسبناهم ضمن الجالية الإسلامية فإنهم يشكلون قرابة 12 في المئة من سكان باريس وضواحيها، وهم يشكلون 70 في المئة من نزلاء كل سجون باريس وضواحيها؟ أسمح لي أن أسألك هنا مع المعذرة مقدماً: هل أنت متأكد من صحة النسب والأرقام التي تفضلت بذكرها؟ - نعم وبكل تأكيد، وعلى مسئوليتي، فأنا أتحدث إليك ليس بصفتي مهتم بوضع العرب الثقافي في فرنسا والمحافظة على هويتهم فقط، بل وكأستاذ رياضيات عاشق للغة الأرقام. وهل وجدت مدارس اللغات الأجنبية التي ذكرتها مهتمة بتراثها اللغوي وبالمحافظة على الهوية اللغوية للجاليات التي تنطق بها أو الفرنسيين من الذين تنحدر اُصولهم من البلدان الناطقة بها؟ - طبعاً، تلك المدارس مهتمة بهذه الأمور وهي في صلب رسالتها التعليمية والتربوية التي تضطلع بها، ناهيك عن اهتمامها بالإرث الحضاري للغات التي تُدرسها، كما لديها رؤية عقلانية تتجسد في الانفتاح على المستقبل لتطوير علاقة صحية بين بلدانهم الأصلية وبين فرنسا التي تقيم فيها جالياتهم، أو الفرنسيين المنحدرين من تلك البلدان بما يعود بالنفع على كلا الطرفين في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، وهؤلاء يشكلون بمنظماتهم وبمؤسساتهم جسوراً بين الثقافة الفرنسية وثقافات بلدانهم، والفائدة تعود بالنفع أكبر على الدول النامية من خلال استفادتها من منجزات فرنسا العلمية والتقنية، لكن دور عرب فرنسا في هذا المجال مازال غائباً أو محدوداً! حذّرت المفوضية الأوروبية 2007 مما حدث مؤخراً في فرنسا بماذا تفسر هذه النسبة المهولة المرتفعة من نزلاء سجون باريس وضواحيها من العرب والمسلمين؟ - لأنهم يتصدرون السجناء المتورطين في جرائم وجُنح وأعمال إرهابية، وهذا الوضع المثير لم يحدث فجأةً بين عشية وضحاها، ففي العام 2007 وجهتُ رسالة إلى المفوضية الأوروبية محذراً من بوادر خطورة توسع الظاهرة الإرهابية المقيتة، ونحن عرب فرنسا بمختلف نُخبنا السياسية والثقافية والدينية نتحمل نصيباً من ضياع هؤلاء الشباب ووقوعهم في براثن الجريمة والانحراف والإرهاب، لأننا لم نؤدِ الدور الملقاة علينا بما فيه الكفاية. هل نفهم من ذلك أن الجمعية العربية للتربية والتأهيل التي أسستها في التسعينيات جاءت لتساهم من موقعها التخصصي للعب هذا الدور؟ - الجمعية التي قمت بتأسيسها ليس فقط من أجل إبعاد عرب فرنسا عن براثن الجريمة والإرهاب، بل وتحصينهم منذ نعومة أظفارهم عبر صقلهم بتوليفة تربوية لهوية مركبة منسجمة بين انتمائهم لاُصولهم القومية والدينية من جهة وبين انتمائهم للوطن الجديد الذي أحتضنهم ووُلدوا على ترابه من جهة أخرى. شبابنا في فرنسا يعاني الانفصام في الهوية الوطنية ولكن الدولة الفرنسية تتحمل أيضاً مسئولية رئيسية أيضاً في ظل التهميش المعيشي والسكني والوظيفي في ضواحي باريس وهو تهميش لا يخلو من النزعة العنصرية، ولعل ذلك ما كوّن بيئة خصبة للإجرام ونجاح التنظيمات الإرهابية في تجنيدهم. - بلا شك، والمسئولية هي مشتركة فرنسية أوروبية عربية، وأعترف لك بأن كثيراً من شبابنا الذين يشكلون اليوم النسبة الأعظم من العرب في فرنسا يعاني من انفصام في الهوية، لأن الواقع الفرنسي لا يساعد على نمو هؤلاء الشباب بشكل صحي، ومن هنا كانت لي وما زالت، وبفضل من الله تعالى، منذ التسعينيات جهود لتكوين وتطوير الشبكة العربية - الأوروبية، ووصفتها في المفوضية الأوروبية بأنها سلاحكم وسلاحنا للبناء الشامل لأولئك الشباب، ولعل ما يساعدني في مهمتي معرفتي بالوزير الأول (رئيس الوزراء الحالي) منذ كان عمدة لمدينة باريس، فضلاً عما أتمتع به من علاقة بالمفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي لما هو معوُل عليها من دور تلعبه لحل هذه المعضلة. إذاً أنت لا تشعر قط بأي تعارض بين جنسيتك أو هويتك الفرنسية وما تفرضه من التزامات من جهة، وبين انتمائك الأصلي لتونس كمسلم وكعربي. - على الإطلاق، فرنسا استضافتني وأنا مدين لها في تكويني، ومنسجم تماماً بين اعتزازي بين هويتي الفرنسية واعتزازي بهويتي العربية والإسلامية في تركيبة متناغمة دون التصادم بين مكوناتها، وإن كنتُ أشعر بمرارة مزدوجة من كون موطني الأصلي من أكثر البلدان نجحت «داعش» في استقطابهم، ومن كون وطني الحالي فرنسا هو أكثر البلدان الأوروبية نجح هذا التنظيم فيه كذلك. في الوقت الحاضر هل توجد في فرنسا أي مدارس عربية خاصة لأبناء الجالية العربية والفرنسيين من أصل عربي؟ - توجد مدارس عربية ولكنها للأسف ليست مستقلة فإما هي تخضع لجمعيات إسلامية أو لمساجد محددة وباعتبارها عربية غير خاضعة لرقابة ما يعرضها لاختراق التيارات المتطرفة وأن تكون بؤراً لتفريخ الأفكار الإرهابية، فأساتذتها يتحدثون لطلابها كأئمة، ولطالما طالبت من الجهات الرسمية الفرنسية المعنية بالالتفات إلى ما يغرسه هؤلاء المدرسون في عقول الناشئين لأنهم يتحدثون إليهم كيفما يشاؤون. نفتقد دور فخرو لتفعيل الدور العربي في فرنسا ما هو تفسيرك لغياب الرقابة الرسمية كُلياً عن مدارس الجمعيات الإسلامية والمساجد؟ وألا تفكرون مع الدولة الفرنسية في إنشاء مدارس مستقلة تُدرس مناهج علمية موائمة بين الهوية الفرنسية ولا تتناقض مع هوية واُصول الطلبة؟ - إنشاء مثل هذه المدارس لا يمكن أن يضطلع به إلا الفريق «البيدغوجي» ( كلمة فرنسية تعني التربوي العلمي) والذي يتكون من صفوف النخبة الفرنسية من أصول عربية بحيث يتم تعليم العربية بطريقة علمية تربوية مشابه للمناهج اللغوية و الفرنسية بعيداً عن طريقة تعليم أئمة التطرف وبالطبع لا يمكن أن تنشئ مثل هذه المدارس بدون عقد شراكة مع الدولة لتؤمّن الدعم المالي ومنه، تنظيم دفع رواتب المدرسين، ولو بنسبة 85 في المئة بعد تأسيس أي مدرسة وهنا بإمكانها ومن حقها فرض الرقابة لمنع تحولها إلى أي شكل من أشكال البؤر الإرهابية، وبإمكان أن تتحقق الرقابة من الطاقم التدريسي الفرنسي ذي الاُصول العربية دونما حاجة للرقابة الحكومية المباشرة. وهذا بحاجة مسبقاً لتوعية بالأهمية القصوى لتلك المدارس وسط النخبة العربية قبل الضغط على الدولة لإقناعها بضروراتها أمنياً وحتى اقتصادياً. وفي الواقع ترك علي فخرو سفيركم الأسبق في باريس فراغاً كبيراً بانتهاء مهمته فقد كان شخصية دبلوماسية عربية كبيرة لعبت دوراً كبيراً في دعم هذه التوجهات وإيصال صوتنا لليونسكو، فهذا الرجل لم يكن مجرد سفير، بل هو رجل يمثل بلاده خير تمثيل، كما يُمثل آلام وآمال اُمة بأكملها بما أداه من خدمات استفدنا منها كثيراً. هذا يُسعدنا بالطبع، كبحرينيين، وباعتبار فخرو من أبرز كبار مثقفينا ومفكرينا.