تحدث الشيخ أحمد مهنا السيسي في خطبة الجمعة بجامع أبوحامد الغزالي فقال: الوَفاءُ كَلِمَةٌ تطيبُ بذكرِها الخواطرُ وتسمو بها نفوس الأكابر، فأَحْرُفُها تشعُّ ضِياءً، وفي معناها تسابق أهلُ المعالى مستعينين بالدعاء، منيبين لرب الأرض والسماء، ثابتين عَلَى الحَقِّ مهما اشتدت الصعاب وضاقت الشعاب، فالوفاء أَدَبٌ رَبّانِيٌّ حَمِيدٌ، وسُلُوكٌ إنساني نَبِيلٌ، تتجلى فيه أروع معاني الإنسانية وهو خلقُ الأنبياءِ والمرسلين وهَمُّ الأولياء والمتقين، قالَ تَعالَى فِي سيدنا إِبراهيمَ -عَلَيهِ السَّلامُ-: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) حِينَ ابتَلاَهُ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فأَتَمَّهُنَّ وقَامَ بِهِنَّ، وقَدَّمَ فلذة كبده إسمَاعِيلَ تَنْفِيذاً لأَمْرِه قربانا، وصَبَرَ عَلَى النَّارِ ابتِغاءَ مرِضاة ربه فكانت له بردا وسلاما، وأَعلَى دَرَجاتِ الوَفاءِ وأَسْماها، وأَجَلُّها وأَرقَاها، وَفَاءُ الإِنسانِ مَعَ رَبِّهِ الذِي خَلَقَه فسواه فعدله، ورَفَعَ قَدْرَه وأَعلى منزلته، ذلك بالتزام أمْرِهِ واجتناب نَهْيِهِ، وخُضُوعاً لِشَرْعِهِ وحُكْمِهِ، والوَفاءُ لِرَسولِهِ -صلى الله عليه وسلم- يكون باتِّباعِ سُنَّتِهِ والسَّيْرِ عَلَى هَدْيِهِ وحبه حباً يليقُ بمكانتِه ويفوقُ حبَّ النفس، والوَفاءُ لِكتابِهِ سُبْحانَهُ وتَعالَى، بِتَعلُّمِهِ وتَعلِيمِهِ وتَرتِيلِهِ، والعَمَلِ بِما فِيهِ، والوقوفِ عِنْدَ أَوامِرِهِ ونَواهِيهِ. وفي الوَفاءِ بَيْنَ الزَّوجَيْنِ، فقَدْ ضَربَ لَنا رَسولُنا -صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ أَروعَ الأَمثِلَةِ، فقد روي أن عَجُوزاً جاءت إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فأَحسَنَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- استقبالها، فَقالَ لَها: (كَيفَ أَنتُم؟ كَيفَ حَالُكُم؟ كَيفَ كُنْتُم بَعْدَنا؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ، فَلَّما خَرَجَتْ، قالت عائشة رضي الله عنها: يَا رَسولَ اللهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ هَذا الإِقبَالَ؟ فَقالَ: يا عائشَةُ إِنَّها كَانَتْ مِنْ صَواحِبِ خَديجَةَ، وإِنَّها كَانَت تَأتِينا زَمانَ خَديجةَ، وإِنَّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإِيمانِ)، إِنَّها مُروءَةُ سيدِنا صلى الله عليه وسلم محمد وشيمُه واحسانُه ووفاؤه بالذمم، فالإِحسَانُ لاَ يَموتُ بِمَوْتِ فَاعِلِهِ، والفَضلُ لاَ يَفْنَى بِفناءِ بَاذِلهِ، قَالَ تعَالَى: (( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ)) أَلاَ فَلنحسِن لكُلِّ مَنْ كَانَتْ تَربِطُنا بِه جَمِيلُ الصِّلاتِ وفاء. فهناك الوَفاءَ لأمواتنا الصَّالِحينَ، ورِعايَةَ ذوي المحتاجين، بل هناك الوفاءُ لمكارمِ الأخلاق وأهلِها حتى لو صدرت من غيرِ مسلمٍ فَقَدْ أَورَدَ ابنُ هِشامٍ أَنَّ سُفانَةَ بِنْتَ حَاتِمِ الطَّائيِّ وَقَعَتْ فِي أَسْرِ المُسلِمينَ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ: (خَلُّوا عَنْها، فإن أَباها كانَ يُحِبُّ مَكارِمَ الأَخلاَقِ) فأكرمَها كرما لا يصدر إلا من نبي مرسل، فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل. وفي مجتمعنا مازال للوفاءِ مكانةٌ ومازال الوفاءُ يُعد من خصالِ الخير، ومازالَ يعيش بيننا كثيرُ من الأوفياءِ لكن علينا الاعتراف بأن مظاهرَ من قلةِ الوفاءِ بدأت تبرزُ فتشوِّه وجه المجتمعَ المتراحمِ الجميل، فليسعَ كلٌ منا لعلاجِها حتى لا تتحول إلى مرض خبيثِ عضال يجتاح مجتمعنا، فتتكاثر مظاهرُ النكران والتنكر ولاسيما لذوي الفضل. إِنَّ مِنْ شِيَمِ أهل الوفاء، وكريم أَخلاَقِ أهل الفَضَل، ونبلهم، الوَفاءُ للمُحْسِنينَ وصُنَّاعِ المَعْروفِ وأهل الفضل، مِمَّنْ دأبُهم هدايةُ الناسِ وعونُهم وتأليفُ قلوبِهم، ومن هؤلاء علماؤنا وأئمة مساجدنا ومؤذنيها لا سيما من قضوا عمرا طويلا في خدمة بيوت الله وأهلها، فكانت المساجد شغلهم الشاغل مضحين في سبيلها في أدق الساعات عسرةً وحرجاً وربما حُرِمت أُسرُهم من حاجة أو ضرورةٍ أو فسحةٍ أو صلةِ ذي قرابةٍ أو صديقٍ له حقٌ عليهم، فهم جديرون بالمساندة حينما يعانون أو يصابون، ذلك شداً من عزمهم وبثا للأمل في نفوسهم، فإمامة المسجد من أسمى المهام ذات الشّرف العظيم، فقد تولّاها الرَّسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وتولّاها خلفاؤه الرَّاشدون من بعده، والأئمة مبلغون لدين الله، داعون إلى كل خير وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (الإمام ضامنٌ والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين). وكذلك الوفاء لمن أدوا عملا جليلا خدمة للوطن والناس ثم كبر سنهم أو عجزوا، من هؤلاء ما يطلق عليهم في عصرنا «متقاعدون» فهم جديرون بكل دعم ومساندة نظرا إلى ما قدموا فلنشعرهم بالأمل وتجديد الفرصِ أمامهم. وإن من صور الوفاء موقف سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- من ذلك الشيخ اليهودي الضرير حينما أخذ رضي الله عنه بيده فذهب به إلى منزله، فأعطاه-.. ثمَّ أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم.. فقد حث الدين على الوَفاءَ بِالعُهودِ والوُعُودِ، فَمَنْ وَعَدَ وَجَبَ علَيهِ الوَفاءُ، وإن منَعهُ مَانِعٌ وَجَبَ علَيهِ الاعتِذارُ، قَالَ سُبْحانَهُ: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) وإِنَّ مِنَ الوَفاءِ الوَاجِبِ وَفاءَ الأَجيرِ أَجرَهُ دونَ مُماطَلَةٍ أو نُقصانٍ، أو تَعنِيفٍ أو حِرْمانٍ.